رؤية فيلسوف قرطبة إلى السياسة في عصره
حتى سنوات متأخرة من القرن العشرين، ما كان الخطاب السياسي لفيلسوف قرطبة ابن رشد معروفاً بتفاصيله، إلا أن نشر كتابه ''الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون'' عام ،1998 كشف عن تفاصيل مهمة عن هذا الخطاب.
كانت النسخة الأصل من هذا الكتاب، تلك التي خطها ابن رشد بيده، مفقودة باللغة العربية إلا أن الدكتور حسن العبيدي، أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة الكوفة بالعراق، كان قد تمكَّن من نقل الكتاب من الإنكليزية إلى العربية بمساعدة المترجمة العراقية الأستاذة فاطمة الذهبي، وصدر عام 1998 عن دار الطليعة في بيروت بعنوان ''تلخيص السياسة لأفلاطون''.
وفي العام ذاته، سرعان ما ظهرت نسخة محققة أخرى مترجمة عن اللغة العبرية، وهي النسخة الوحيدة التي حفظت لنا النَّص الرشدي عبر التاريخ، وقام الأستاذ أحمد شحلان بالترجمة التي قدم لها المفكِّر المغربي محمد عابد الجابري وصدرت في كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. فكان ظهور الترجمتين بمثابة الخروج من مأزق الخطاب الرشدي الذي بدا مبتور الجانب بسبب سقوط المتن السياسي عنه واحتجابه.
عندما كان المؤرخون والمفهرسون العرب والغربيون من علماء المشرقيات يشيرون إلى عنوان هذا الكتاب من بين عناوين مؤلفات ابن رشد، يتبدى الاعتقاد أمامهم أن هذا الكتاب مجرَّد شرح أو تعليق عابر، لكن متن النَّص بدا متوافراً على ما هو ثر في أفكاره وتمثيله لمعطيات الأزمة السياسية التي كان عليها حال الأمة الإسلامية زمن ابن رشد. وهذا ما تناوله الدكتور فريد العليبي، الباحث التونسي في شؤون الفكر الفلسفي الإسلامي، في كتابه ''رؤية ابن رشد السياسية'' الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت هذا العام.
حافظ المؤلف على منظومة ابن رشد المصطلحية وهو يتناول الموضوعة السياسية، وانعكس ذلك على أسلوبية البحث لديه. جاء الكتاب بثلاثة أقسام، هي: التأسيس الفلسفي للتدبير المدني ومقاصده، ومعالم آراء ابن رشد السياسية، وملامح الإصلاح السياسي لدى ابن رشد ومعوقاته، وتضمَّنت هذه الأقسام سبعة فصول، هي: التأسيس الفلسفي للسياسة باعتبارها تدبيراً للمدينة، ومقاصد التأسيس الفلسفي لتدبير المدينة، والحرية، والعدل، والحرب، ومدينة ضد الفلسفة، وأخيراً من شروط صلاح المدينة.
يلخِّص المؤلف رؤية ابن رشد الفلسفية في السياسة قائلاً: طرقَ فيلسوف قرطبة إشكالية السياسة وما تفرَّع إليها من قضايا من زاوية عقلية، ومن البيِّن أن الكثير من أطروحاته لا تزال ''محافظة'' على قيمتها بالنسبة إلى العرب، خصوصاً موقفه من المرأة، ونقده للجور والاستبداد، ودعوته إلى النظر في الشأن السياسي من موقع التفكُّر والرويّة، وتصدِّيه لتدخُّل رجال الدين في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية، ودفاعه عن تأصيل الفلسفة في التربة العربية.
وإذا كانت مساهمة ابن رشد في حقل الفلسفة السياسية قد وضعت نصب العين الارتقاء بالتعامل مع الظاهرة السياسية من مستوى التعاطي العرضي والخطابي إلى مستوى التحليل البرهاني، فإن ذلك لا يعني أن السياسة قد تحوَّلت معه إلى علم مستقل بذاته.
اهتم أبوالوليد بتحليل إشكاليات المدينة الأندلسية التي عاش فيها واقعياً، وهو بذلك ما كان بعيداً عن لحظتها التاريخية والاجتماعية التي كانت تشهد توترات واضطرابات وقلق وفتن فأدرك فيلسوف قرطبة كل ذلك. بل كان في مواجهة شاملة مع مدينته، مواجهة طغى عليها نقده القاسي لمظاهر الانحراف التي انتشرت فيها، في الاقتصاد والسياسة والثقافة، بدفعه إلى ذلك إدراكه أن إصلاح الأمة يقتضي إرجاع الأمور إلى نصابها عبر تنقية الشريعة والفلسفة من التحريفات التي أُدخلت عليها، ولذلك تحرَّك المشروع الرشدي على واجهتين: إصلاح الفلسفة بتخليص تعاليم أرسطو من تحريفات الفلاسفة العرب المتأخرين في المشرق ومنهم ابن سينا، وإصلاح الشريعة بتخليصها من تأويلات المتكلِّمين التي تزعم لنفسها الصدق.
وضمن هذا السياق يندرج نقد ابن رشد للطاغية الذي يصفه بأنه ''وحدانيُّ التسلُّط''، وللفُقهاء والمتكلِّمين أيضاً، أما الجمهور فقد نظر إليه بحسب قدرته الذهنية على تمثل الخطاب البرهاني، ومن ثمَّ ميَّز بينه والفلاسفة بالنظر إلى عجزه عن إدراك ما هو برهاني، وذلك في ظل لحظة تاريخية كان أبناء الأمة فيها واقعين تحت سيطرة الجهل المعرفي.
الكتاب: رؤية ابن رشد السياسية
المؤلف: د. فريد العليبي/ تونسي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت .2007
----------------------
نقلاً عن جريدة (الاتحاد)