السياسة وسلطة اللغة
عبد السلام المسدي
كتب/ محمد الحمامصي
في كتابه الجديد (السياسة وسلطة اللغة) يضع د.عبد السلام المسدي، يده على التناقض الكبير بين السلطة السياسية وسلطة اللغة التي تستخدمها لتضليل مواطنيها، فاللغة كما جاء في كتابه إيحاء يستخدمها السياسي مدركا قوتها في تثبيت سلطته، وتغيب مراميها عن المواطن العادي المحكوم بالسياسي، فيتعمق غيابه عن الفعل، وتزداد غيبوبته عن أفاعيل السياسي، ويتعمق انفصاله عن واقعه وعما يجري حوله، ذلك أن اللغة سلطة في ذاتها أما السياسية فهي سلطة بذاتها ولذاتها .
فأما اللغة فالإنسان يفعل بها الفعل على الناس، وكثيرا ما لا يملكون واعيا بسلطتها ولا بخطرها، وأما السياسة فأصحابها لا يتصورون أنفسهم إلا وهم يفعلون الأفعال بالناس على الناس، وبعضهم يمارس اللغة وهو واع بقوتها إذ تشد أزر سلطته، وبعضهم لا يعي أن وزن سلطانه بوزن سلطة اللغة، وفي مسافة بين هؤلاء وأولئك تزدهر الحياة أو يخبو وهجها .
ود. المسدي أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية وعضو المجامع العلمية للغة العربية في كل من تونس ودمشق وطرابلس وبغداد، وعمل من قبل وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس، وسفيرا لبلاده لدى جامعة الدول العربية وهو قبل هذا وبعده مهتم بالعلوم اللغوية والنقد الأدبي وتحليل الخطاب السياسي، له العديد من المؤلفات، منها: «التفكير اللساني في الحضارة العربية»، و«اللسانيات وأسسها المعرفية»،
و«قضايا في العلم اللغوي»، و«ما وراء اللغة»، و«مباحث تأسيسية في اللسانيات»، و«الأسلوبية والأسلوب»، و«النقد والحداثة»، و«مراجع النقد الحديث»، و«قضية البنيوية»، و«مساءلات في الأدب واللغة»، و«في آليات النقد الأدبي»، و«بين النص وصاحبه».
ومن هنا يكون هو الأقدر على الفرز في الخلط الذي يقع بين السياسي واللغوي وتوضيح كيف أن السياسي يخبث أحيانا فيستخدم اللغة ليمرر مقاصده بين مواطنيه، وهم غائبون في أغلب الأحيان عن إدراك مرامي اللغة التي حمالة أوجه .
وينقسم الكتاب إلى أحد عشر فصلا كل فصل يحلل جانبا من جوانب علاقة السياسة بسلطة اللغة مثل دلالة الألفاظ وامتحان السياسة، وأسماء الحروب ومقاصد السياسة، والسياسة وبلاغة التسمية، كاشفا عن دلالات الكثير من الوقائع والأحداث والألفاظ والأسماء عربيا ودوليا وتأثيرها على مجريات الواقع السياسي العالمي والمحلي
حيث ان السياسة هي السلطة الحاضرة واللغة هي السلطة الغائبة والذين يصوغون الأحلام الإنسانية يرون العالم كان يمكن أن يكون أسعد لو أن السياسة قلصت من حضورها في وعي أصحابها وأن اللغة قلصت من غيابها عن جمهور الناس المحكومين .
إن العرب لن يفيدوا كثيرا ـ على حد تعبير د.المسدي ـ أن يمتلكوا السلاح ولا أن ينفردوا بمخزونات البترول ولا أن يتطلعوا إلي توظيف الطاقة الذرية سلميا ما لم يمتلكوا سلاح الخطاب، لن يحقق العرب انتصارا سياسيا في الساحة الدولية إلا إذا أتقنوا صناعة الخطاب وتمرسوا بآليات تفكيك الخطاب وتفوقوا في مهارات توضيب الخطاب، فبلاغة الخطاب شيء يعرفه العرب وينتشون به،
وفصاحة الخطاب شيء يدركه العرب لكنهم لا يقدرون عليه إلا بالارتياض العسير، أما صناعة الخطاب فشيء آخر يعثرون عليه بالصدفة ويقفون حياله مشدودين بالإعجاب، فمنهم من يوفق فيه عند الأوان ومنهم من لا يستبصره إلا بعد فوات الآوان .
إن اللغة سلطة كثيرا ما تندس داخل نسيج السياسة حتى تكاد تحتكر لباب الفعل والقرار، وكم من منعطف كانت فيه الكلمة هي الصانعة للحدث السياسي وهي الراسمة لمعالم الموقف بكليته، ولئن كان هذا دأب اللغة مع السياسة منذ القدم فإن تطور الحياة وانفجار منظومتها قد أعاد ترتيب البيت حيث تسكن تحت سقف واحد السياسة واللغة .
ويؤكد د.المسدي أنه منذ صباح التاريخ يوم بدأ الإنسان يدوّن لمن بعده مآثره، كانت اللغة أداة أساسية من أدوات السياسة، لم تكن أهميتها تقل عن أهمية المال وأهمية الاحتماء بالعصبية، غير أن وزن اللغة في استواء أمر السياسة قد تطور بتطور آليات الإنسان في تواصله مع الإنسان، ثم تضخم عندما أصبحت المعلومة ملكا مشاعا بين الحكام والمحكومين .
إن ذلك التطور الذي آلت إلى انتصاب اللغة داخل سلطة السياسة قد مر بمحطات كبرى، هي تلك المنعرجات التي آلت بالمعلومة إلى الملك المطلق المشاع: المحطة الأولى نشأة الصحافة، والثانية ظهور البث والثالثة ظهور البث التلفزي والرابعة استحداث الإنترنت .
ويرى د.المسدي أنه منذ القديم كانت صناعة الخطاب هي الوجه الآخر من السياسة، وكانت الومضة اللغوية دائما على موعد مع التاريخ كي تغزل ألياف الحدث الأكبر منذ قصة التحكيم التي انتهت إليها معركة صفين بين علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان حين اتفق المحكمان أبو موسى الأشعري
وعمرو ابن العاص على خلع موكليهما فبادر أبو موسى بخلع صاحبه علي، وقد استدرج إلى الابتدار، قال عمرو ابن العاص (لقد ثبت معاوية كما ثبت خاتمي هذا في يدي) وراحت الصياغة التعبيرية تدوي بصورتها البلاغية عبر أرجاء الزمن لتكون اللغة شاهدا على صنع التاريخ .
ويضرب د. المسدي العديد من الأمثلة في كافة فصول كتابه سواء من السياسة الدولية أو السياسة العربية وهي في الأغلب أمثلة حديثة ففي الفصل السابع المعنون بـ (السياسة وبلاغة التسمية) يقول: كان لأنور السادات حس مرهف بالأسماء وكان يتوجس من إبحار الدلالات في موج المقاصد المضمرة، وكان لا يتوانى عن التدخل في إيضاح المعاني واستبدال ما يتعين الاستبدال به من الكلمات،
فحين وقعت الأحداث الاجتماعية الثائرة على غلاء المعيشة عام 1977 انبرى فعل التسمية سلاحا حادا يضاف إلى ضغط المظاهرات، وشاع الحديث عنها بأنها انتفاضة الفقراء، وإذا بالرئيس يستغل ما تخللت به تلك الأحداث من سطو على المحلات ونهب لبضائع المتاجر ،
وإذا به يرسلها صفعة مضادة عن طريق فعل التسمية فيصيح غاضبا (بل هي انتفاضة الحرامية) ثم كان لغضبته تلك نتائج، قرر أن يخرج بعاصمة مصر من القاهرة وأن يؤسس لها عاصمة أخرى في مكان ما من أرض الكنانة .
وللألقاب سحرها لأنها تختزل الزمن والأحداث، وقد تختزل في الاسم بحروفه المعدودة صفحات من أدبيات الفكر والجدل وربما الصراع، فالعالم الباكستاني عبد القادر خان ألبسوه في مضمنات دلالته فخر عظيم من جهة وبلاء ليس بعده بلاء من جهة ثانية، قالوا عنه وقد صدقوا (أبو القنبلة الذرية الإسلامية).
الاسم ليس كمثله مجلى لمسماه ولكن الغائب عن الوعي أنه في المجال الشهرة مرآة يجتلي عليها المرء وجوده لا من حيث هو الحامل للاسم ولكن من حيث هو المنجز لفعل التسمية، كم غابت عبر تتالي الأحقاب حلقة الوصل بين الاسم والمسمى في غفلة حقيقة التاريخ، فمن من جموع العرب يتذكر أن أشهر الشعراء في تاريخ أدبنا هو ذاك الذي لا نذكره بالاسم الذي لم يكن هو يعرفه عن نفسه،
وإنما وصف قدحي شائن ذكروه له، ليحملوا به إليه زعما زعمه بعضهم عليه فاستنكف وتغاضى، إنه المتنبي هذا الاسم الذي لم يكن اسما له، ولا حتى كنية ينادى بها، بل ما كان أحد يذكره أمامه ولو على سبيل المجاز أو الدعابة، لم يكن له اسم ولقب وكنية إلا أبو الطيب وكفي .
*الكتاب: السياسة وسلطة اللغة
*الناشر: الدار المصرية اللبنانية القاهرة 2007
*الصفحات:369 صفحة من القطع المتوسط
نقلا عن جريدة (البيان)