لا يمكننا أن نتطور دون أن نعاني لأننا وجود واحد
وحدة الوجود
في ضوء الأبحاث الجديدة حول جوهر التنظيم الذاتي في المنظومات المضطربة، هذه الأبحاث التي كشفت أن المنظومات المضربة التي تبدو وكأن تصرفاتها تتم بشكل عشوائي كالجو وتقلباته التي تشكل الطقس والأسواق والبورصة مرورا بالجسد الحي إلى المجتمع ، إنما تحكمها في الواقع قوانين معقدة شديدة الحساسية للشروط الابتدائية.
الصفة الأهم هي الحساسية للشروط الابتدائية فتغير صغير للدرجة التي يصعب ليس فقط ملاحظته بل يكاد يستحيل قياسه يؤدي إلى تغير فادح الكبر. بالمقابل فان تغير كبير قد لا يقود إلى نتيجة تذكر، والسبب كامن في جوهر مثل هذه المنظومات فمقدار التغير ليس هو الفصل وإنما كامل حالة المنظومة. فتغير كبير عندما تكون المنظومة مستقرة أو عندما تحدث تغيرات في جزء آخر من المنظومة تعاكس التغير الأول لا يؤدي إلى أي تغير هام في المنظومة. بينما تغير ضئيل للغاية عندما تكون المنظومة في حالة حرجة أو عندما يتضافر مع تغيرات طفيفة في أجزاء أخرى من المنظومة قد يقود إلى تغير راديكالي في كامل المنظومة.
من المتفق عليه بطريقة أو بأخرى أن الإنسان كائن ذكي، ليس الإنسان فقط هو من يتمتع بصفة الذكاء بل كل الحيوانات تقريبا بل والنباتات والبكتريا وان يكن بدرجات مختلفة. فإذا تابعنا التفكير صعودا ونزولا فانا في حالة الصعود سنجد أن المجتمع الذي هو عبارة عن مجموعة من الناس يتمتع حتما بصفة الذكاء. لا أحد يجادل في أن المجتمع(الدولة مثلا) التي تتخذ قرارات في صالح ذاتها تتصرف بذكاء كما لن يجادل أحد أن هذا الذكاء ليس إلا الذكاء الجمعي لأفراد هذه الدولة منظما بطريقة ذكية ما ( دستور، قوانين، مجالس الخ...). إذا عدنا الآن إلى حالة النزول فانه يمكننا أن نفترض وبدرجة عالية من الثقة أن الإنسان هو الآخر ذكي لأن مكوناته هي الأخرى ذكية ( الدماغ، الأعصاب، الهرمونات، الخ.....).
نحن درجنا حتى زمن قريب على تعريف الذكاء في الدرجة الوسطى من الدرجات الثلاث السابقة فقط، أي ذكاء الإنسان الفرد بينما لا نعتبر أن المجتمع(دولة ما مثلا) ذكي ولا أجهزة الإنسان(القلب مثلا) ذكيا. فنحن نشير إلى المجتمع على أن أفراده أذكياء والى الجسد والعقل على أنهما سليمين ولكن في ضوء أبحاث المنظومات المضطربة نستطيع القول أن ذكاء الإنسان الفرد ليس إلا محصلة ذكاء أجهزته التي تتفاعل بطريقة ذكية يحددها ويتحكم بها مجموع تلك الأجهزة،. كما أن ذكاء المجتمع ليس إلا محصلة ذكاء أفراده المنظم بطريقة ذكية يحددها ويتحكم بها هؤلاء الأفراد.
إذا قبلنا بالنتيجة السابقة التي أرى أنها مدعومة علميا بما فيه الكفاية وذلك نظريا عن طريق أبحاث المنظومات المضطربة ذات التنظيم الذاتي وتجريبيا عن طريق التفكير في أن نجاعة فرد ما تعتمد على محصلة نجاعة أجهزته الحيوية وتفاعل هذه الأجهزة مع بعضها البعض بطريقة ناجعة تحددها وتتحكم بها هذه الأجهزة ونفس الشيء ينطبق على نجاعة مجتمع ما، فإننا نستطيع بقدر كبير من الراحة إتمام الطريق نزولا وصعودا. نزولا من الجهاز العصبي مثلا إلى أجزاء هذا الجاز كالدماغ مثلا ثم إلى أجزاء الدماغ وصولا إلى الخلية الحية الواحدة التي لا شك أنها تملك ذكاء من نوع ما. وصعودا إلى العالم كله الذي يشكل جميع المجتمعات البشرية. والنقطة الهامة هنا هي: لماذا علينا أن نقف هنا؟ ألا يمكننا اعتبار مكونات الخلية ذاتها تملك ذكاء من نوع ما؟ مكونات الخلية كالكرومزومات مثلا، هذه الكرومزومات التي تنقسم وتتكاثر بطريقة في غاية الإتقان ، وهذه الطريقة نابعة من هذه الكرومزومات ذاتها.
لنتوقف هنا عند ظاهرة الصفات المنبثقة في المنظومات المضطربة ذات التنظيم الذاتي؛ حيث يقصد بهذه الظاهرة الصفة التي تمتلكها المنظومة ككل دون أن تمتلكها مكونات هذه المنظومة بمعنى أن هذه الصفة تنبثق عند تشكل المنظومة وليس قبل ذلك. كمثال على ذلك صفة اللون للمعادن فالجزيئة المعدنية ليس لها لون وإنما تظهر صفة اللون عند تشكل أو انتظام جزيئات معدن ما بالشكل التي تكون فيه ذلك المعدن. تماما كصفة الحياة بالنسبة للخلية فأجزاء الخلية لا تمتلك صفة الحياة إنما الخلية كاملة هي التي تمتلك هذه الصفة. سيبدو لنا بالنسبة إلى صفة الحياة أننا مضطرون للتوقف عند الخلية الحية فالإنسان حي والرئة حية والحويصلة الرئوية كذلك حية والخلية الواحدة من الرئة حية ولكن الكروموزوم أو البلازما أو أي جزء مستقل من الخلية لا يمتلك صفة الحياة منفردا. فهل ينطبق ذلك على الذكاء؟
في الواقع بقليل من التمعن يمكننا التأكد أنه في مجال حديثنا هنا فان الذكاء ليس شيء آخر غير الحياة كما أن الحياة ليست شيء آخر غير الذكاء فتصرف الخلية بطريقة تحميها وتحافظ على بقائها وتطورها هذا التصرف الذي هو ليس شيء آخر غير الذكاء؛ هو نفسه الذي يجعلنا نصف الخلية الحية بأنها حية. بسهولة يمكننا الوصول إلى أن الحياة، الذكاء، الحرية هي شيء واحد وليست أشياء مختلفة. بالتالي هل يتوقف الذكاء أو الحياة أو الحرية وهي نفس الصفة عند وحدة الحياة الصغرى التي هي الخلية الحية؟ يقودني هذا إلى أن عدم امتلاك المادة للحرية يقود حتما إلى عدم امتلاك البشر ثم الكون ككل للحرية والعكس صحيح، فإذا كانت شروط العالم البدائية تقود حتما إلى تبدلاته اللاحقة لم يكن من الممكن الحديث عن الحرية البشرية. والحرية هي الذكاء فكيف لذكي أن يختار بين خيارين هو مجبر على أحدهما وكما أسلفت الحياة ليست شيء آخر غير الذكاء.
لنفكر بالمحرك وسنجد أنه مثل الخلية الحية يتكون من مجموعة من الأجهزة التي تتضافر لتجعل المحرك يعمل بالشكل الذي يعمل به وكل جهاز من هذه الأجهزة عاجز عن أي أداء وحيدا بينما يقوم المحرك اعتمادا على مجموع أجهزته بأداء عمله. نفس الكلام ينطبق على الكمبيوتر. في المحرك والكمبيوتر لن نقوم بتكلف إعطاء صفة للمحرك ككل زائدة عن صفات أجزائه بمعنى أننا لن نفترض أن هناك إعجاز ما حصل عندما اجتمع المحرك كاملا، هذا الإعجاز لا يمتلكه أي من أجزاء ذلك المحرك أو الكمبيوتر. مثل هذا الشيء نميل لتكلف منحه للخلية الحية ونسميه الحياة حيث نصر أو على الأقل الكثير منا على أن الحياة ليست صفة آلية تمتلكها الخلية الحية نتيجة لمكونات هذه الخلية والطريقة التي تعمل بها مع أنه لا يوجد أي فرق بين الخلية والمحرك أو الكمبيوتر ولذلك سأسمح لنفسي أن افترض أن الوضع هو ذاته في الخلية ولكن كل ما في الأمر أنه كما لا يمكننا أن نجعل محرك يدور دون جهاز حقن وقود وجهاز تبريد وجهاز تحكم بضغط الغازات الخ... حيث أن هناك حد أدنى من الأجهزة لا يمكن أن يتكون محرك دونها، كما أن هناك حد أدنى لمكونات أي جهاز كمبيوتر حتى يمكن تسميته بذلك المسمى فان أي عضوية لا يطلق عليها اسم الحياة دون أن تجتمع فيها مكونات أساسية تمكنها من النمو والتكاثر الخ.... إذا لا فرق بين المحرك والخلية الحية أما لماذا ليست أجزاء الخلية الحية مكونات حية فقد أصبح بسيطا إذ الأمر لا يتعلق بتلك المكونات وإنما بالمفهوم فمفهوم المحرك الذي يتطلب جهاز يدور باستمرار محولا وقود ما إلى عمل لا يمكن أن ينطبق على ما هو أقل من المحرك في الحد الأدنى فهو لا يمكن أن ينطبق على جهاز حقن الوقود مثلا لأن هذا الجهاز لن يكون قادرا وحده على تحويل الوقود إلى عمل(دوران) بشكل مستمر، فالمسألة في الحالتين تتعلق بالمفهوم وليس بجهاز حقن الوقود أو أي جزء من الخلية الحية كالجسيم الكوندري مثلا( جسيم موجود في الخلية مسئول عن تزويد الخلية بالطاقة). المسألة تماما كالطاولة فرغم أن كل رجل من أرجل الطاولة الثلاث أو الأربع وكذلك ترس الطاولة لا يملك صفة خاصة لا يملكها الآخر كما أن الطاولة كاملة لا تملك صفة سحرية خاصة إضافية لم تكن تمتلكها أجزاءها ولكنها لا تسمى طاولة إلا عندما تجتمع فالقضية قضية مفهوم أو وظيفة فالطاولة لا تؤدي وظيفة طاولة إلا عندما تجتمع أجزاءها المكونة لها في الحد الأدنى وبالتالي لا تتخذ مفهوم طاولة إلا عندها. فهل تمتلك الطاولة صفة جديدة لا تمتلكها أجزاءها؟ حتما حسب فهمنا للأشياء هي تمتلك ولكن هذه الصفة ليست من نوع كامل الاختلاف عن صفات مكوناتها وإنما هي ناتجة عن صفات مكوناتها. لنبني أربعة جدران لكننا لن نحصل على غرفة بدون وضع سقف فوق تلك الجدران، لا تنبثق أو تظهر صفة الغرفة قبل وضع السقف مع أن الغرفة لا تمتلك صفة سحرية أو لنقل فوق طبيعية لا تمتلكها الجدران ولا السقف ولكنها تمتلك صفة طبيعية جديدة، وكل ما في الأمر أن هذه الصفة لا يمكن أن تنبثق أو تظهر بمعنى تكون ظاهرة لنا إلا في الغرفة المؤلفة من أربعة جدران وسقف. الخلاصة أن انبثاق الصفات هو أمر يتعلق بفهمنا لصفات الأشياء وليس بالأشياء ذاتها.
هنا أنا أعتقد أن صفة الذكاء أو الحياة(أو الحرية) يمكننا الاستمرار بالنزول بها إلى المكون المادي الأصغر والصعود بها إلى الكون كله ولكنها تنبثق أو تصبح مفهومة ومشاهدة من قبلنا عند مستوى معين هو مستوى الخلية الحية مثلا، فالصفة التي تعطي معدن ما لونه وبريقه موجودة في كل جزيئه من ذلك المعدن ولكن لا يمكن مشاهدتها من قبلنا إلا بعد تجمع هذه الجزيئات مما يعني أن الانبثاق أو الظهور هو مفهوم بشري وليس صفة للمادة فالمادة تمتلك صفاتها ولكن تلك الصفات لا تصبح مفهومة لنا تحت مستوى معين. ذلك أن الذهن البشري عاجز عن فهم الكليات لذلك هو يقوم بتجزيئها من أجل فهمها، هذا التجزيء هو السبيل الوحيد الذي يمكن الذهن البشري من فهم الأشياء لكنه – التجزيء - في الوقت الذي يمنح الذهن قوة عملاقة على فهم الجزئيات يصيبه بشلل كامل في فهم الكليات وهذا موضوع يحتاج بحث خاص ليس هنا مكانه. بالطبع كل مفهوم بشري كالسمع أو البصر هو مركب موضوعي ذاتي وليس مجرد قضية ذاتية بحتة ولا هو مسألة موضوعية صرفة. وبالعودة إلى الذكاء والحياة فمن أين اتخذ المكون الأصغر الذي نعترف له بالحياة والذكاء(الخلية الحية مثلا) هذه الصفة إن لم يكن قد اتخذها من مكوناته مرتبة بطريقة ما، هذه الطريقة حددتها هذه المكونات خلال عملية تطورها.
الفرض الثاني الجاهز للتدخل هنا أن هناك كائن خارج الكون هو الذي وهب تلك الصفة( الحياة أو الذكاء). لكن كون حتى المنظومات غير الحية كما تبين أبحاث المنظومات ذات الانتظام الذاتي تمتلك ذكاء من نوع ما، بل كون جميع المنظومات المضطربة تسعى لتنظيم ذاتها ذاتيا يناقض هذا الفرض. اللهم إلا إذا قلنا أن ذلك الواهب يهب تلك الصفة للمادة أو للكون كله وهو ما يكافئ قولنا أن هذه هي صفة عامة للمادة أو للكون نتيجة أن المادة أو الكون هي أشياء ذكية.
حتى وصلت المادة إلى تكوين الخلية التي كونت الإنسان الذي كون المجتمع لا بد أن المادة ذكية لكن هذا الذكاء لا يظهر لنا أو ينبثق تحت مستوى معين يشكل حد أدنى، تماما كما أن صفة طاولة لا تظهر تحت مستوى وجود شيء يتكون من ثلاث أرجل وسطح. وكل فرض لوجود واهب لتلك الصفات من خارج المادة ذاتها يصبح متهافتا للغاية. إذ كيف أمكن للأنظمة غير الحية امتلاك صفة التنظيم الذاتي الذي هو جوهر الذكاء الذي هو بدوره – الذكاء - ليس شيئا غير الحياة.
من ناحية ثانية إذا افترضنا وجود الواهب – واهب الحياة والذكاء – المستقل عن العالم بل المتعالي عليه، فلماذا لا يظهر لنا هذا الواهب بوضوح؟ العالم الذي يعتبر في هذه الحالة وجودا أو حقيقة من الدرجة الثانية ظاهر لنا للدرجة التي لا نختلف حولها بينما الواهب، الذي هو في هذه الحالة الوجود الأصلي أو الموجود – الحقيقة - من الدرجة الأولى شديد الخفاء للحد الذي طال ولا زال يطول اختلافنا حوله؛ هل هو موجود أم لا وإذا كان موجودا فكيف هي ماهيته؟ هذا مناقض لطبيعة الأمور، أي أن يظهر الوجود الثانوي أو الموجود من الدرجة الثانية واضحا متفقا عليه ويختفي الوجود الأصلي أو الموجود من الدرجة الأولى. والنقطة الثالثة التي تتناقض مع فرض الموجد المفارق المتعالي على العالم هي الحرية التي شرحت أنها هي نفسها الذكاء أو الحياة فالموجد المفارق المتعالي يجب أن يكون كلي الحكمة والقدرة مما لا يترك مجالا لحرية العالم أو البشر. فإذا قبلنا بأن البشر أحرار بأي صورة من الصور وهذا ما نشعر به ، لم يعد بإمكاننا القبول بمثل ذلك الموجد.
كل ما سبق يقودني إلى افتراض أن العلم في السنوات الأخيرة خطى خطوات حاسمة في طريق فصل مسالة هامة، إلا وهي مسألة الموجد. فطوال الآلاف الأخيرة من السنين كان هناك بشكل رئيسي ثلاث تيارات تتبنى ثلاث تفسيرات حول أصل ومصير الكون: تيار يقول بوجود هدف لهذا العالم يحدده خالق مفارق لهذا العالم ومتعالي عليه( الأديان الإبراهيمية بشكل رئيسي باستثناء بعض التيارات الصوفية). وتيار يقول بالعبث والعشوائية المطلقة وان العالم هو هكذا لغير ما سبب أو لسبب لا يمكن فهمه (الملحدين واللا أدريين). وتيار ثالث يقول أن هناك هدف لهذا العالم يحدده العالم نفسه (الفكر الديني للشرق الأقصى وبعض الفرق الصوفية للأديان الإبراهيمية والتي تقول بوحدة الوجود ). ما أراه بوضوح هو أن العلم يقيم كل يوم دليلا جديدا على صحة التيار الأخير، وحدة الوجود.
القول بوحدة الوجود برأيي هو القول الوحيد القادر على جلاء التناقض المستمر بين شعور بعض الناس بأن هذا العالم له موجد حكيم وشعور آخرين بعبثيته. فمن نظر إلى العالم من حيث جزئياته كما تبدو في أذهاننا مال إلى النظرة الثانية العبثية ومن نظر إلى كلية العالم بدت له حكمة ما من وراء وجود العالم، والقول بوجود موجد مفارق للعالم متعالي عليه يتعارض مع إحدى هاتين النظرتين كما أن القول بعبثية العالم يتعارض مع الأخرى بينما ينسجم القول بوحدة الوجود – كون العالم يتضمن تطوره الحكيم في ذاته – ينسجم مع كلا النظرتين حيث يمكن للعالم أن يبدو عبثيا من زاوية كما يمكن له أن يبدو هادفا من زاوية أخرى. العالم يبدو عبثيا للتفكير البشري العقلاني التجزيئي وهذا ينسجم تماما مع كون الغالبية الساحقة من الأذكياء عقليا كالعلماء وفي جميع الأزمنة والأمكنة ملحدين أو اقرب للإلحاد، كما يبدو العالم حكيما للوجدان البشري الذي يتعامل مع العالم بشكله الكلاني وهذا أيضا يتفق مع كون الغالبية الساحقة من الأذكياء وجدانيا كالشعراء وفي كل العصور والأمكنة مؤمنين أو يميلون للإيمان. من ناحية ثانية فان القسوة الموجودة في العالم تتناقض مع فرض وجود صانع حكيم مفارق ومتعالي للعالم - فما حاجة هذا الصانع كلي القدرة مطلق الحكمة لعذابنا - بينما تتناقض الروعة الموجودة في العالم مع فرضية عبثية العالم – كيف تنتج الروعة والسعادة الموجودتان في العالم عن مثل تلك العبثية – بينما تنسجم تلك القسوة مع نظرة وحدة الوجود حيث هذا العالم الذكي السائر في طريق التطور يعاني لأنه يتطور. خلايانا ونحن ومجتمعاتنا تعاني لأنها تتطور وبالمحصلة نحن العالم فالجزء ليس غير الكل في منظومة لا نهائية وبالتالي نعاني من أجل أن نتطور. في منظومة لا نهائية الجزء ليس غير الكل لأن مثل هذه المنظومة غير قابلة للتجزؤ أصلا فالمنتهيات لا يمكنها أن تشكل لامنتهيا فالعالم الكامل هو كل موحد لكن في أذهاننا نبدو وكأننا أجزاء ويبدو وكأنه كل.
لأنه لما كان الواحد هو الكل كان لابد لمكونات هذا الكل من المعاناة عندما تفكر في ذواتها ككائنات، كما أنه لا بد لها بأن تفكر في ذواتها ككائنات ليس فقط لأن ذلك هو البداية التي لا بد منها لأي تفكير بل لأنه بدون كون هذه المكونات مفكرة ما كان الواحد مفكرا ولما كان الواحد مدركا لم يكن هناك بد من أن تكون المكونات مدركة ولكن إدراكها لا يتأتى دون عنائها بل هما شيء واحد لأنها تدرك الواقع عقليا بعكس ما تدرك الحقيقة وجدانيا. فهي ذوات منفصلة وهذا واقع عقلي لكن الحقيقة الوجدانية غير ذلك فهي ليست شيئا غير الكل الواحد.
العلم واليقين والتطور
مما سبق نعرف أن المنظومات تتطور ذاتيا وهذه هي أحدى صفاتها، كما أن المنظومات مترابطة صعودا ونزولا فالإنسان يشكل منظومة تتألف من مجموع أجهزته الحيوية وفي نفس الوقت هو عضو في منظومة أعلى هي المجتمع.
بالطبع ما يظهر لنا هو أنه ليس هناك تطابق بين رغبة أو إرادة وحتى مصلحة هذه المنظومات المتراكبة بل إن هناك الكثير من التناقض. فاستمرار وجود الإنسان يعتمد على موت خلاياه في مرحلة معينة وعلى تكاثرها بنسبة محددة مما يسمح بتجددها وعندما تستعصي بعض الخلايا على ذلك وتعيش لمدة طويلة أو تتكاثر بسرعة كما يحصل مع الخلايا السرطانية، يقع الإنسان في مشكلة. نفس مثل هذا التناقض يظهر بين الإنسان الفرد والمجتمع ويبدو أن الطبيعة تدعم المنظومة الأعلى (حسب التفريق القائم في ذهننا بين الكل والجزء) وبالتالي فان نجاعة أي منظومة يتوقف على أن تكون منظومة طبيعية مما يجعل المستوى الأعلى هو المستوى الأهم. لأن فناء الفرد لا يعني فناء المنظومة بينما فناء المنظومة يعني حتما فناء جميع أفرادها فالخلود الحقيقي هو الخلود الجمعي وهو أمر جيد بل لذيذ فهم ذلك من فهمه وغفل عنه من غفل.
من هنا فان قوة الفرد الزائدة ولما كان أهم أسباب القوة هو العلم مما يعني أن علم الفرد الزائد الذي يمكنه من العمل على تحقيق مصلحته على حساب مصلحة منظومته الأعلى هو – هذا العلم الزائد - ضار بل شديد الضرر. ولذلك فان امتلاك الفرد لليقين وهو العلم الزائد مدمر للمنظومة التي تضم الفرد وبالتالي للفرد ذاته وحتى تتمكن المنظومات التي يشكل الأفراد أعضاءها الاستمرار في التطور لا بد من اتصاف الأفراد بعدم اليقين . فلما كان الفرد الطبيعي لا يعمل إلا لمصلحة ذاته وجب أن لا يعرف أكثر من اللازم حتى لا يستخدم تلك المعرفة ضد المنظومة الأعلى التي ينتمي إليها. في الجهة المقابلة بما أن عمل الفرد يتطلب العلم فنقص المعرفة الكبير يشل الفرد الذي هو المكون والمحرك الأساسي للجماعة والذي على عمله يعتمد تقدم الجماعة. لا بد من امتلاك الفرد للمعرفة لكن دون اليقين لأن زيادة المعرفة (اليقين الفعلي أو الوهمي، بمعنى امتلاك اليقين فعلا أو توهم امتلاكه) يجعل الفرد أقوى من الجماعة ومسيطرا عليها للحد الذي يحقق مصلحته على حساب مصلحتها فيتوقف تطور الجماعة ومنها الفرد. الوضع كالخلية والجسد فموت الخلايا يؤدي إلى موت الجسد وزيادة نمو الخلايا(السرطان) يؤدي أيضا إلى موت الجسد كما أن موت الجسد يؤدي إلى موت جميع خلاياه بينما يمكن أن تموت بل يجب أن تموت الخلايا في كل يوم ليستمر بقاء الجسد الذي يجب أن يموت الكثير منه ليستمر المجتمع. من المؤكد أن هذا التوازن حرج وليس المقصود أن مصلحة المنظومة الأعلى هي الأهم بل المقصود هو التوازن بين الفرد والمنظومة التي ينتمي إليها، فالإنسان يمكن في حالة ما أن يكون مفرط الأنانية بشكل يؤذي خلاياه للحد الذي يدمرها مدمرا ذاته، وكذلك المجتمع.
عندما يتوقف تطور منظومة فإنها تزول وبزوالها يزول أفرادها فالمنظومات كالطائرات، ما يحافظ عليها محلقة هو حركتها بمعنى تطورها.
الدولة التي تشكل منظومة أعلى من الفرد في نفس الوقت هي فرد في منظومة أعلى هي مجموعة الدول وينطبق عليها تماما ما ينطبق على الفرد والجماعة. فالعلم الكلي الذي هو اليقين ضار بقدر ضرر الجهل. ولما كانت كل منظومة هي عضو في منظومة أعلى كان العلم الكلي غير مفيد دائما إلا إذا افترضنا أننا وصلنا إلى المجموعة الكلية؛ ولكن هنا لا يكون العلم موجود أصلا إذ في المجموعة الكلية تتحقق جميع الاحتمالات بنفس القدر مما يجعل المعرفة معدومة، ففي مجموعة كلية لا نهائية لا نحتاج إلى معرفة أي شيء لتساوي جميع الاحتمالات، فالمعرفة في مجموعة كلية متضمنة ضمن تلك المجموعة بسبب الاتساع اللانهائي الذي يساوي بين جميع الاحتمالات وهذا ما يشير إلى صحة مقولة المعتزلة بأن الله - المجموعة الكلية - لا يمكن أن تكون صفاته غير ذاته، ففي مجموعات جزئية فقط نستطيع الحديث عن صفات غير الذات، وهذا موضوع انساق إليه الكلام وليس هنا مكانه.
لذلك:
نحتاج إلى العلم من أجل التقدم ( العلم = المعرفة)
نحتاج إلى الجهل من أجل التطور ( الجهل = عدم اليقين)
البشرية والمعاناة ، بين الاستسلام (الدعة) والكفاح (تحقيق الأنا)
من الواضح أن الاستسلام ليس دائما هو أمر سلبي ففناء الفرد هو ضرورة لا بد منها من أجل بقاء وتطور المنظومة الأعلى (علما أنه يمكن الحديث عن الفناء فقط نتيجة للنظرة المجزئة القائمة للعالم في ذهننا بينما من النظرة الوجدانية الكلية لا معنى للفناء فالموجود لا يقبل الفناء أصلا ) وهذا ينطبق على جميع المنظومات الأدنى والأعلى من الفرد. لكن هذا الفناء سلبي حتما إذا تم بسهولة، بدون أن يقوم الفرد بدور ما من أجل تحقيق أنانيته لأن هذا بالضبط هو ما يصنع تطور المنظومة أو المجتمع. مما يعني أنه لا بد من توازن بين قدرة الفرد على العمل لتحقيق أناه واستطاعته على الاستسلام والتنحي عندما ينتهي دوره أو عندما يصبح دوره ذو ضرر أكثر من النفع الذي يقدمه لمنظومته والفرد في هذه الحالة لا يفنى – وفقا للنظرة الكلية – وإنما دوره المؤقت هو الذي ينتهي، الفرد لا يفنى فالفناء مفهوم لا معنى له في النظرة الكلية ولكن الدور هو الذي يتغير لكن ذلك يظهر في ذهننا التجزيئي على أنه فناء. إذا لم تعد تحتاج للطاولة سواء صنعت من بعض أجزائها كرسي ومن البعض الآخر عكاز أو استعملت الطاولة كلها كوقود فالوظيفة فقط هي التي تبدلت . مصلحة المنظومة الأعلى ليست أبدا أهم من مصلحة الفرد فالفرد هو المحرك الأساسي لذاته وللمنظومة التي ينتمي إليها أو يشكلها ولكن طبيعة الأمور تقتضي فناء الفرد إذا فنيت منظومته ولا تقتضي العكس فعندما يموت الإنسان تفنى جميع خلاياه ولكن عندما تموت الخلية فهي تموت وحدها مما يؤدي إلى أنه لا مناص طبيعيا لا أخلاقيا من تقديم مصلحة المنظومة على مصلحة الجزء المكون لها لكن بالطريقة التي لا تحد كثيرا من نشاط غالبية أفراد المنظومة. كل هذا كما يبدو في ذهننا العاجز عن الفهم الكلي للقضايا لكن يمكن لوجداننا أن يحس أن لا فناء هناك بل لا تناقض بين المصالح حيث الجزء هو الكل والكل هو الجزء. أي أن الجزء عندما يفنى - بمعنى يتبدل دوره - فانه إنما يفنى لمصلحة ذاته.
في المحصلة:
إذا نحن نعاني لأننا نتطور ولا يمكننا أن نتطور دون معاناة فهذه المعاناة ليست مجانية ولا هي بقصد تعذيب الأفراد فهي ليست إلا انعكاس لعدم التطابق الضروري القائم على مستوى الفهم العقلي بين المنظومات الأدنى والأعلى فالإنسان يعاني بسبب عدم التطابق بين رغبته مع أجهزته الحيوية اتجاه الأدنى وكذلك مع مجتمعه تجاه الأعلى. وبعكس الفكرة السائدة فان التوافق الكامل أو الانسجام التام يعني هو الآخر الفناء فكل ساكن كما في مثال الطائرة هو فاني، ولا يمكن للحركة أن تحدث دون اضطراب. كما أن هذا الاضطراب إذا زاد كان مدمرا، فالماء يتجمد تحت حد أدنى من الحرارة ويتبخر فوق حد معين آخر والنطاق المنتج هو بين هذين الحدين.
لقد تطورت أوربا بشكل كبير لأن التناقض بمعنى المعاناة كانت أكبر ولكن في المحصلة قد يؤدي التطور السريع إلى الدمار بواسطة أسلحة التدمير الشامل كالأسلحة النووية أو بواسطة استنزاف الكوكب الذي نعيش عليه وتلويثه فليس دائما المقدار الأكبر هو الأفضل، بينما عاش الشرق الأوسط لقرون دون تطور يذكر لغياب التناقض لأنه تبنى فكرا فيه حل جاهز لكل قضايا العالم الكبرى والصغرى وهو النقيض لما حصل في أوربا. الشرق الأقصى ربما كان في الوسط. فما هو الأفضل؟
من حيث المعالجة الذهنية العقلانية وضع أوربا هو الأفضل لكن هل يختلف الجواب من حيث التفكير الوجداني الكلاني؟
الجواب صعب ولكن يبدو أن الجواب لن يختلف لأن الهدف الأسمى للعالم هو التطور. لكن ماذا إذا أدت سرعة التطور إلى الدمار، إلى انهيار كل شيء؟ في الواقع عندها ما يحصل هو البداية من جديد من نقطة أكثر انخفاضا مما وصلنا إليه الآن. لكن أليس هذا مناقضا للتطور بمعنى أن التطور صار سيحتاج إلى وقت أكبر؟ نعم، ولكن تكون هناك تجربة قد تم انجازها للاستفادة منها. حقيقة الأمر أنه من حيث النظرة الكلية الوجدانية فانه لا يمكن أن يحدث في العالم ما هو شرير أو خاطئ فكل ما يحدث سيقود حتما إلى وضع أفضل. لنتصور أن العالم دمر نتيجة لحرب نووية، ما ذا يعني هذا؟ يعني أن تناقضات العالم وصلت إلى حد يصعب عليها جدا الاستمرار في التعايش وعلينا أن نبدأ من جديد ولكن بصورة أفضل، ببساطة يعني أن حل الغز أو ترتيب الأرقام أو الأحرف لحل الأحجية وصل إلى طريق مسدود ولا بد من نكث كامل التركيب للبداية بمحاولة جديدة مع الاستفادة من المحاولة الفاشلة السابقة. هذا يجعلني ميال للقول أن العمل والتقدم دائما هو الأفضل.
نحن نعاني لأننا نتطور ( وحدة الوجود)
محمد شرينة
23/1/2010