سلافومير مروجيك
يعتبر سلافومير مروجيك ( 1930) أشهر كاتب مسرحي بولندي . وله الكثير من المجاميع القصصية . وقد قمت بترجمة العديد من مسرحياته الى العربية ( ظهرت في مجلات عراقية مثل "الأقلام" و"الثقافة الأجنبية" وغيرهما) كذلك قدم أحد مسارح القاهرة مسرحيته المعروفة ( تانغو) في الستينات. و طوال عقود لم يتغير مفهومه ومنهجه وتقنيته الأدبية والدراماتورغية كثيرا. إذ لاتزال نقطة إنطلاقه تلك الحرب الساخرة مع الرومانسية أو بصورة أدق مع (الأسطوريات) البولندية المتراكمة عبر قرون، وبذلك أصبح المواصل الفعلي لأدب البولنديين الكبيرين فيتولد غومبروفتش وستانسلاف إغناتسي فتكييفتش ( فتكاتسي). الا أن ما يميّز مروجيك عن سلفيه وكامل مسرح اللامعقول الغربي هو عدم إكتراثه للبعد الميتافيزيقي في هذا المسرح، فما يتكرس له عمل مروجيك هو منطقة العلاقات الإجتماعية بشروطها التاريخية كالتبدلات العنيفة في وضع الفرد وإضطراب الموازين في معادلته مع الآخرين بعد بروز قوانين الجماعية ونشوء أنواع الضغط وآليات القهر التي أبدلت المعادلة القديمة، معادلة الجلاد والضحية .. فبطل مروجيك إنسان ملاحق ومغترب تتقوض معتقداته حين الدخول في علاقات إجتماعية . كذلك فهو فرد وحيد لا يعرف الهروب من وجه الجماعية الشرسة والإرغامية أو من قوى غير محددة تماما وغريبة عليه مما تذكرنا ، بتسلطها المطلق، بمصائر أبطال كافكا ومع فارق واحد هو أن أبطال مروجيك لايحققون البعد التراجيدي ، فهم دمى بيد الكاتب تتحرك في محيطات معينة بدقة وهي أبعاد السخرية والهزء (الحياتية ). ورغم طابعه الشمولي فأدب مروجيك متكرس بالدرجة الرئيسية لفينومينولوجيا مجتمع بلاده التي كانت سمتها الرئيسية المردودات العبثية لتلك( الإشتراكية الفعلية ). ومن خلال عشرات المسرحيات نجده يخلق أيضا المعادل المسرحي الساخر بل الهازيء لأدب الرومانسية البولندية. فسخريته مشيّدة على عامل التعارض بين الفكرة وتجسيدها ، بين التقاليد والواقع الفعلي إذ أنه يكشف بدل الفعل وصيغته الخارقة ( البطولية ) عن أزمة القيم التي يجدها في إستمرارية العراك بين ( القديم ) و(الجديد) أي في عدم صيرورة الجديد جديدا تماما والقديم أثرا بال. وتبلغ السخرية أقصاها حين يتقدم العاشق الرومانسي التقليدي وكل طموحه وظيفة مكتبية ..
وفي مسرحيته( تانغو) يعود مروجيك الى القضايا التي طرحها غومبروفتش في روايته المعروفة (فرديدوركه) ، قضايا التعارض بين الشكل والفوضى أو بالأحرى أزمة الشكل والتقاليد. وفي مسرحية ( الحدث السعيد) المترجمة الى العربية أيضا صار مادة الهزء والهجوم هو العالم المعاصر ، الحديث أي الغربي الذي تعامل مروجيك مع قضاياه وأحوال القلق والإحباط السائدة فيه بأسلوب الغروتيسك. وفي الادب الأوربي المعاصر تلاحظ منذ أمد طويل نزعتان تعكسان موقفين فكريين متعارضين تماما. الأول يقوم على الإيمان الإنفعالي ب( رسالة ) الإنسان ومسؤوليته ، والثاني يعكس الشك به والعالم ، وتكون أداته السخرية والهزء. وما يميز أدب بولندا ما بين الحربين هو الإستقطاب الأقصى لهذين الموقفين . والموقف الثاني ، موقف الشك والتغريب الميتافيزيقي يمثله غومبروفتش و(فتكاتسي) في حين أن أدب مروجيك يلتصق بواقعين حسب : الفعلي والآخر المحتمل أي المرشح لأن يكون فعليا. وفي واقع الحال يبتعد أدب مروجيك عن الشمولية الدراماتورغية ( بيكيت وأيونسكو) ويأخذ بالخمائر الإجتماعية والفنية لحياة بولندا في االماضي القريب والحاضر. كذلك يعتقد مروجيك بصورة راسخة أن ما هو إنتقالي صار ستراتيجية دائمة .. كما يأخذ من ( فتكاتسي ) مقولة لامنطقية الحياة الإجتماعية ساعيا الى تفسيرها بمقولة إن العبث يسيطر على العالم ويقوّض أعرافا وقيما دائمية . وفي الأساس يبقى أدب مروجيك ملاحقة لظواهر اللامعنى الأجتماعي والفلسفي والأخلاقي في الحياة الفعلية. وشأن بقية أبطال اللامعقول ليس أبطال مروجيك بشرا ذوي سيرة ووعي أو لاوعي بل هم إشارات وأنماط يحدد سماتهم وسلوكهم سياق الأحداث حسب. ومعلوم أن جوهر الوجود الإجتماعي هو الشكل أو التقليد أي أمر متفق عليه مسبقا ويتعرض ببالغ السهولة الى القولبة أو الكذب وتزييف الإيقاع الطبيعي والبيولوجي للحياة . فالإنسان أعطى العالم شكلا معينا لكي يقدر على فهمه وتنظيمه الا أن هذا الشكل يكتسب، لامحالة، طبيعة القالب . ونحن لانقدر على أن نغلق بهيئة منتهية عالما متنوع ومتبدلا. وفي عالم اليوم يكتسب ( الشكل) أبعادا مرهبة ويتحول الى قيمة لذاتها تسجن الحرية وتلقائية الفرد. ومن هنا شتى أنواع التمرد والإحباط بمواجهة ضغوط هذا التقليد والتي تأخذ في الأدب والمسرح منحى ضد الشكل : ضد الرواية وضد الفن مما نلقاه لدى أيونسكو مثلا أي في التمسك النموذجي بالشكل ،وفي ذلك البناء الدقيق للحدث. وفي هذه المعضلة والجدلية ذات الطابع غير المالوف يتم تدمير الشكل من خلال دفعه صوب العبث ، ومن واقع العبث يحصل خلق شكل جديد أصيل. . وفي أولى مسرحياته ( البوليس ) ، وهي مترجمة الى العربية أيضا ونشرتها مجلة(القلام)، يكون كل شيء في البدء نظاما عبثيا يتحول في الختام الى فوضى عبثية للحرية. وفي مسرحية ( تانغو ) يحصل العكس . وهكذا تكمن المفارقة في أن عالم هذا الكاتب البولندي مسجون بالشكل والإيماءة و(القناع) ، وهوينسحب على اللغة التي يستخدمها مروجيك ، فهي مفخمة عن عمد وذات أسلوب قائم على المحاكاة الساخرة للغات معينة كلغة الروتين الرسمي أو التنظيري أو الصياغات الرومانسية المعروفة وبعضها مأخوذ من أشهر المؤلفات البولندية .