فصل في دخول بني إسرائيل التيه وما جرى لهم فيه من الأمور العجيبة
قد ذكرنا نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين ، وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه ، وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة
ولم أر في كتاب أهل الكتاب قصة نكولهم عن قتال الجبارين ، ولكن فيها : أن يوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار ، وأن موسى وهارون وخور جلسوا على رأس أكمة ، ورفع موسى عصاه ، فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم ، وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هارون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس ، فانتصر حزب يوشع عليه السلام وعندهم أن ( يثرون ) كاهن مدين وختن موسى عليه السلام بلغه ما كان من أمر موسى وكيف أظفره الله بعدوه فرعون ، فقدم على موسى مسلماً ، ومعه ابنته صفورا زوجة موسى ، وابناها منه ، جرشون و عازر فتلقاه موسى وأكرمه ، واجتمع به شيوخ بني إسرائيل وعظموه وأجلوه
وذكروا أنه رأى كثرة اجتماع بني إسرائيل على موسى في الخصومات التي تقع بينهم ، فأشار على موسى أن يجعل على الناس رجالاً أمناء أتقياء أعفاء ، يبغضون الرشاء والخيانة ، فيجعلهم على الناس رءوس ألوف ، ورءوس مئين ، ورءوس خمسين ، ورءوس عشرة ، فيقضوا بين الناس ، فإذا أشكل عليهم أمر جاءوك ففصلت بينهم ما أشكل عليهم ، ففعل ذلك موسى عليه السلام
قالوا : ودخل بنو إسرائيل البرية عند سيناء ، في الشهر الثالث من خروجهم من مصر ، وكان خروجهم في أول السنة التي شرعت لهم ، وهي أول فصل الربيع ، فكأنهم دخلوا التيه في أول فصل الصيف والله أعلم
قالوا : ونزل بنو إسرائيل حول طور سيناء ، وصعد موسى الجبل فكلمه ربه ، وأمره أن يذكر بني إسرائيل ما أنعم به عليهم ، من إنجائه إياهم من فرعون وقومه ، وكيف حملهم على مثل جناحي نسر من يده وقبضته ، وأمره أن يأمر بني إسرائيل بأن يتطهروا ويغتسلوا ويغسلوا ثيابهم وليستعدوا إلى اليوم الثالث ، فاذا كان في اليوم الثالث فليجتمعوا حول الجبل ، ولا يقتربن أحد منهم إليه ، فن دنا منه قتل ، حتى ولا شيء من البهائم ، ماداموا يسمعون صوت القرن فإذا سكن القرن فقد حل لكم أن ترتقوه فسمع بنو إسرائيل ذلك وأطاعوا واغتسلوا وتنظفوا وتطيبوا
فلما كان اليوم الثالث ركب الجبل غمامة عظيمة ، وفيها أصوات وبروق وصوت الصور شديد جداً ففزع بنو إسرائيل من ذلك فزعاً شديداً ، وخرجوا فقاموا في سفح الجبل ، وغشي الجبل دخان عظيم في وسطه عمود نور زلزل الجبل كله زلزلة شديدة ، واستمر صوت الصور ، وهو البوق واشتد ، وموسى عليه السلام فوق الجبل ، والله يكلمه ويناجيه ، وأمر الرب عز وجل موسى أن ينزل فيأمر بين إسرائيل أن يتقربوا من الجبل ليسمعوا وصية الله ، وأمر الأحبار ، وهم علماؤهم أن يدنوا فيصعدوا الجبل ، ليتقدموا بالقرب
وهذا نص في كتابهم على وقوع النسخ لا محالة
فقال موسى : يارب إنهم لايستطيعون أن يصعدوا ، وقد نهيتهم عن ذلك ، فأمره الله تعالى أن يذهب فيأتي معه بأخيه هارون ، ولكن الكهنة وهم العلماء ، والشعب وهم بقية بني إسرائيل ، غير بعيد ففعل موسى
وكلمه ربه عز وجل ، فأمره حينئذ بالعشر الكلمات
وعندهم أن بني إسرائيل سمعوا كلام الله ، ولكن لم يفهموا حتى فهمهم موسى ، وجعلوا يقولون لموسى : بلغنا أنت عن الرب عز وجل ، فإنا نخاف أن نموت
فبلغهم عنه فقال هذه العشر الكلمات وهي : الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن الحلف بالله كاذباً ، والأمر بالمحافظة على السبت ومعناه تفرغ يوم من الأسبوع للعبادة ، وهذا حاصل بيوم الجمعة الذي نسخ الله به السبت أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض الذي يعطيك الله ربك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا نشهد على صاحبك شهادة زور لا تعمد عينك إلي بيت صاحبك ، ولا تشته امرأة صاحبك ، ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ، ولا حماره ، ولا شيئاً من الذي لصاحبك ومعناه النهي عن الحسد
وقد قال كثير من علماء السلف وغيرهم : مضمون هذه العشر الكلمات في آيتين من القرآن ، وهما قوله تعالى في سورة الأنعام : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون "
وذكروا بعد العشر الكلمات وصايا كثيرة وأحكاماً متفرقة عزيزة ، كانت فزالت ، وعمل بها حيناً من الدهر ثم طرأ عليها عصيان من المكلفين بها ، ثم عمدوا إليها فبدلوها وحرفوها ، ثم بعد ذلك كل سلبوها فصارت منسوخة مبدلة ، بعد ما كانت مشروعة مكملة
فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وهو الذي يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين
وقد قال الله تعالى : " يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى * وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى "
يذكر تعالى منته وإحسانه إلا بني إسرائيل بما أنجاهم من أعدائهم وخلصهم من الضيق والحرج وأنه وعدهم صحبة نبيهم إلى جانب الطور الأيمن أي منهم ، لينزل عليه أحكاماً عظمية فيما مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم وأنه تعالى أنزل عليهم في حال شدتهم وضرورتهم في سفرهم في الأرض التي ليس ليها زرع ولا ضرع ، مناً من السماء ، يصبحون فيجدونه خلال بيوتهم ، فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى مثله من الغد ، ومن ادخر منه لأكثر من ذلك فسد ، ومن أخذ منه قليلاً كفاه ، أو كثيراً لم يفضل عنه فيصنعون منه مثل الخبز ، وهو في غاية البياض والحلاوة ، فإذا كان من آخر النهار غشيهم طير السلوى ، فيقتنصون منها بلا كلفة ما يحتاجون إليه حسب كفايتهم لعشائهم
وإذا كان فصل الصيف ظلل الله عليهم الغمام ، وهو السحاب الذي يستر عنهم حر الشمس وضوءها الباهر ، كما قال تعالى في سورة البقرة : " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون "
إلى أن قال : " وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون * وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون * وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون * وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم * وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون * وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "
إلى أن قال : " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين * وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون "
فذكر تعالى إنعامه عليهم ، وإحسانه إليهم ، بما يسر لهم من المن والسلوى ، طعامين شهيين بلا كلفة ولا سعي لهم فيه ، بل ينزل الله المن باكراً ، ويرسل عليهم طير السلوى عشياً ، وأنبع الماء لهم ، بضرب موسى عليه السلام حجراً كانوا يحملونه معهم بالعصا ، فتفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، لكل سبط عين منه تنبجس ، ثم تنفجر ماء زلالاً فيستقون فيشربون ويسقون دوابهم ، ويدخرون كفايتهم ، وظلل عليهم الغمام من الحر
وهذه نعم من الله عظيمة ، وعطيات جسيمة ، فما رعوها حق رعايتها ، ولا قاموا بشكرها وحق عبادتها ، ثم ضجر كثير منهم منها وتبرموا بها ، وسألوا أن يستبدلوا منها ببدلها ، مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها
فقرعهم الكليم ووبخهم وأنبهم على هذه المقالة وعنفهم قائلاً : " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " أي هذا الذي تطلبونه وتريدونه بدل هذه النعم التي أنتم فيها حاصل لأهل الأمصار الصغار والكبار موجود بها ، وإذا هبطتم بها ما تشتهون وما ترومون بما ذكرتم من المآكل الدنية والأغذية الردية ، ولكني لست أجيبكم إلى سؤال ذلك هاهنا ، ولا أبلغم ما تعنتم به من المنى
وكل هذه الصفات المذكورة عنهم الصادرة منهم ، تدل على أنهم لم ينتهوا عما نهوا عنه ، كما قال تعالى : " ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " أي فقد هلك وحق له والله الهلاك والدمار ، وقد حل عليه غضب الملك الجبار
ولكنه تعالى مزج هذا الوعيد الشديد ، بالرجاء لمن أناب وتاب ولم يستمر على متابعة الشيطان المريد ، فقال : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى "
سؤال الرؤية
قال تعالى : " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين * ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين * قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين * وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين * سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين * والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون "
قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد : الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر من ذي الحجة
فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر ، وفي مثله أكمل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه ، وأقام حجته وبراهينه
والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات ، وكان فيه صائماً يقال إنه لم يستطعم الطعام ، فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه ، فأمره الله أن يمسك عشراً أخرى ، فصارت أربعين ليلة ولهذا ثبت في الحديث : أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون ، المحبب المبجل الجليل وهو ابن أمه وأبيه ، ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه ، فوصاه ، وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة
قال الله تعالى : " ولما جاء موسى لميقاتنا " أي في الوقت الذي أمر بالمجىء فيه ، " وكلمه ربه " أي كلمه الله من وراء حجاب ، إلا أنه أسمعه الخطاب ، فناداه وناجاه ، وقربه وأدناه ، وهذا مقام رفيع ومعقل منيع ، ومنصب شريف ومنزل منيف ، فصلوات الله عليه تترى ، وسلامه عليه في الدنيا والأخرى
ولما أعطى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية ، وسمع الخطاب ، سأل رفع الحجاب ، فقال للعظيم الذي لا تدركه الأبصار القوي البرهان : " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى ، لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتاً وأشد ثباتاً من الإنسان ، لا يثبت عند التجلي من الرحمن ولهذا قال : " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني "
وفي الكتب المتقدمة : أن الله تعالى قال له : يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حجابه النور - وفي رواية : النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إلى بصره من خلقه "
وقال ابن عباس في قوله تعالى : " لا تدركه الأبصار " ذاك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء
ولهذا قال تعالى : " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين "
قال مجاهد : " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني " فإنه أكبر منك وأشد خلقاً ، " فلما تجلى ربه للجبل " فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد و الترمذي ، وصححه ابن جرير و الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت ، وزاد ابن جرير وليث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " قال هكذا بأصبعه ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل ، لفظ ابن جرير
وقال السدي عن عكرمة ، عن ابن عباس : ما تجلي - يعنى من العظمة - منه إلا قدر الخنصر فجعل الجبل دكاً ، قال : تراباً ، " وخر موسى صعقا " أي مغشياً عليه وقال قتادة : ميتاً والصحيح الأول لقوله : " فلما أفاق " فإن الإفاقة إنما تكون عن غشي " قال سبحانك " تنزيه وتعظيم وإجلال أن يراه بعظمته أحد ، " تبت إليك " أي فلست أسأل بعد هذا الرؤية ، " وأنا أول المؤمنين " أنه لا يراك أحد حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزى بصعقة الطور " ؟
لفظ البخاري وفي أوله قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني من بين الأنبياء "
وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفيه : " لا تخيروني على موسى " وذكر تمامه
وهذا من باب الهضم والتواضع ، أو النهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية ، أو : ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وليس ينال هذا بمجرد الرأي ، بل بالتوقيف
ومن قال إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ، ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم ، ففي قوله نظر ، لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة ، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً ، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله أعلم
ولا شك أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أفضل البشر بل الخليقة ، قال الله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وما كملوا إلا بشرف نبيهم
وثبت بالتواتر عنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أنه قال : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر " ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون ، حتى أولوا العزم الأكملون : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم
وقوله صلى الله عليه وسلم : " فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش - أي آخذاً بها - فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات القيامة ، حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده : فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال ، فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء ، ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء ، فيجد موسى باطشاً بقائمة العرش قال الصادق المصدوق : " فلا أدرى أصعق فأفاق قبلي " ؟ أي وكانت صعقته خفيفة ، لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق ، " أو جوزي بصعقة الطور " ؟ يعنى فلم يصعق بالكلية
وهذا فيه شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية ، ولا يلزم تفضيله بها مطلقاً من كل وجه ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة ، لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال : لا والذي اصطفى موسى على البشر ، قد يحصل في نفوس المشاهدين لذلك هضم بجناب موسى عليه الصلاة والسلام ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه
وقوله تعالى : " قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " أي في ذلك الزمان ، لا ما قبله ، لأن إبراهيم الخليل أفضل منه ، كما تقدم بيان ذلك في قصة إبراهيم ، ولا ما بعده ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل منهما ، كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء ، وكما ثبت أنه قال : " سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلائق حتى إبراهيم "
وقوله تعالى : " فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين " أي فخذ ما أعطيتك من الرسالة والكلام ، ولا تسأل زيادة عليه ، وكن من الشاكرين على ذلك
وقال الله تعالى : " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء " وكانت الألواح من جوهر نفيس ، ففي الصحيح : أن الله كتب له التوراة بيده ، وفيها مواعظ عن الآثام ، وتفصيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام
" فخذها بقوة " أي بعزم ونية صادقة قوية " وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " أن يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها " سأريكم دار الفاسقين " أي سترون عاقبة الخارجين عن طاعتي ، المخلفين لأمري ، المكذبين لرسلي
" سأصرف عن آياتي " أي عن فهمها وتدبرها ، وتعقل معناها الذي أريد منها ، ودل عليه مقتضاها " الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " أي ولو شاهدوا مهما شاهدوا من الخوارق والمعجزات ، لا ينقادون لإتباعها " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا " أي لا يسلكوه ولا يتبعوه " وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " أي صرفناهم عن ذلك لتكذيبهم بآياتنا ، وتغافلهم عنها ، وإعراضهم عن التصديق بها والتفكير في معناها ، وترك العمل بمقتضاها " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون "
قصة عبادتهم العجل في غيبة كليم الله عنهم
قال الله تعالى : " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين * ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين * قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين * إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين * والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم * ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون "
وقال تعالى : " وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى * قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري * فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي * قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري * فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي * أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا * ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى * قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي * قال فما خطبك يا سامري * قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا * إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما "
يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل ، حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ربه ويسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها
فعمد رجل منهم يقال له هارون السامري ، فأخذ ما كانوا استعاروه من الحلي ، فصاغ منه عجلاً وألقي فيه قبضة من التراب ، كان أخذها من أثر فرس جبريل ، حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه فلما ألقاها في فيه خار كما يخوار العجل الحقيقي ويقال إنه استحال عجلاً جسداً ، أي لحماً يخور ودماً حياً يخور ، قاله قتادة وغيره وقيل بل كانت ، الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة ، فيرقصون حوله ويفرحون
" فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي " أي فنسى موسى ربه عندنا ، وذهب يتطلبه وهو هاهنا ! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، وتقدست أسماؤه وصفاته ، وتضاعفت آلاؤه وهباته
قال الله تعالى مبيناً بطلان ما ذهبوا إليه ، وما عولوا عليه من إلهية هذا الذي قصاراه أن يكون حيواناً بهيماً أو شيطاناً رجيماً : " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " وقال : " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين "
فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جواباً ، ولا يملك ضراً ولا نفعاً ، ولا يهدى إلى رشد اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم ، عالمون في أنفسم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال
" ولما سقط في أيديهم " أي ندموا على ما صنعوا " ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين "
ولما رجع موسى عليه السلام إليهم ، ورأى ما هم عليهم من عبادة العجل ، ومعه الألواح المتضمنة التوراة ، ألقاها ، فيقال إنه كسرها وهكذا هو عند أهل الكتاب ، وإن الله أبدله غيرها ، وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك ، إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين
وعند أهل الكتاب : أنهما كانا لوحين ، وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة ، ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل ، فأمره بمعاينة ذلك
ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد و ابن حبان عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الخبر كالمعاينة "
ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذوا إليه بما ليس بصحيح ، قالوا : إنا " حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري " تحرجوا من تملك حلى آل فرعون وهم أهل حرب ، وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم ، ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الذي له خوار ، مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار !
ثم أقبل على أخيه هارون عليهما السلام قائلاً له : " يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * أن لا تتبعن " أي هلا لما أرأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا فقال : " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل " أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم
" قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " وقد كان هارون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفظيع أشد النهي ، وزجرهم عنه أتم الزجر
قال الله تعالى : " ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به " أي إنما قدر الله أمر هذا العجل وجعله يخور فتنة واختباراً لكم ، " وإن ربكم الرحمن " أي لا هذا " فاتبعوني " أي فيما أقول لكم " وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " يشهد الله لهارون عليه السلام " وكفى بالله شهيدا " أنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه
ثم أقبل موسى على السامري " قال فما خطبك يا سامري " أي ما حملك على ما صنعت ؟ " قال بصرت بما لم يبصروا به " أي رأيت جبريل وهو راكب فرساً : " فقبضت قبضة من أثر الرسول " أي من أثر فرس جبريل وقد ذكر بعضهم أنه رآه ، وكلما وطئت بحوافرها على موضع أخضر وأعشب ، فأخذ من أثر حافرها ، فلما ألقاه في هذا العجل المصنوع من الذهب كان من أمر ما كان ولهذا قال : " فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي * قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " وهذا دعاء عليه بألا يمس أحداً ، معاقبة له على مسه ما لم يكن له مسه ، هذا معاقبة له في الدنيا ، ثم توعده في الأخرى فقال : " وإن لك موعدا لن تخلفه " وقرئ : " لا نخلفه " " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " قال : فعمد موسى عليه السلام إلى هذا العجل ، فحرقه : قيل : بالنار ، كما قاله قتادة وغيره ، وقيل بالمبادر ، كما قاله علي وابن عباس وغيرهما ، وهو نص أهل الكتاب ، ثم ذراه في البحر ، وأمر بني إسرائيل فشربوا ، فمن كان من عابديه علق في شفاههم من ذلك الرماد ما يدل عليه ، وقيل بل اصفرت ألوانهم
ثم قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لهم : " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما "
وقال تعالى : " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين " وهكذا وقع وقد قال بعض السلف : " وكذلك نجزي المفترين " مسجلة لكل صاحب بدعة إلى يوم القيامة
ثم أخبر تعالى عن حلمه ورحمته بخلقه ، وإحسانه على عبيده في قبوله توبة من تاب إليه ، بتوبته عليه ، فقال : " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم "
لكن لم يقبل الله توبة عابدي العجل إلا بالقتل ، كما قال تعالى : " وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم " فيقال إنهم أصبحوا يوماً وقد أخذ من لم يعبد العجل في أيديهم السيوف ، وألقى الله عليهم ضباباً حتى لا يعرف القريب قريبه ولا النسيب نسيبه ، ثم مالوا على عابديه فقتلوهم وحصدوهم ، فيقال إنهم قتلوا في صبيحة واحدة سبعين ألفاً
ثم قال تعالى : " ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " استدل بعضهم بقوله : " وفي نسختها " على أنها تكسرت ، وفي هذا الإستدلال نظر ، وليس في اللفظ ما يدل على أنها تكسرت والله أعلم
وقد ذكر ابن عباس في حديث الفتون كما سيأتي : أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر ، وما هو ببعيد ، لأنهم حين خرجوا : " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " وهكذا عند أهل الكتاب ، فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم ، بلاد بيت المقدس وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل ، قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف ، ثم ذهب موسى يستغفر ، فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة
" واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون "
ذكر السدي وابن عباس وغيرهما أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرإئيل ، ومعهم موسى وهارون ويوشع وناذاب وأبيهو ، ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل ، وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا ، فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعود النور ساطع صعد موسى الجبل
فذكر بنو إسرائيل أنهم سمعوا كلام الله وهذا قد وافقهم عليه طائفة من المفسرين ، وحملوا عليه قوله تعالى : " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "
وليس هذا بلازم ، لقوله تعالى : " فأجره حتى يسمع كلام الله " أي مبلغاً ، وهكذا هؤلاء سمعوه مبلغاً من موسى عليه السلام
وزعموا أيضاً أن السبعين رأوا الله ، وهذا غلط منهم ، لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم الرجفة ، كما قال تعالى : " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " وقال هاهنا : " فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي "
قال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخير فالخير ، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه بما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم
فخرج بهم إلى طور سيناء ، لميقات وقته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فطلب منه السبعون أن يسمعوا كلام الله ، فقال : أفعل
فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشي الجبل كله ، ودنا موسى فدخل في الغمام ، وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله ، وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه ، فضرب دونه الحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليه فقالوا : " يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " فأخذتهم الرجفة ، وهي الصاعقة فأتلفت أرواحهم فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ، ويرغب إليه ويقول : " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج : إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل وقوله : " إن هي إلا فتنتك " أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، يعني أنت الذي قدرت هذا ، وخلقت ما كان من أمر العجل اختباراً تختبرهم به كما : " قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به " أي اختبرتم
ولهذا قال : " تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " أي من شئت أضللته باختبارك إياه ، ومن شئت هديته ، لك الحكم والمشيئة ولا مانع ولا راد لما حكمت وقضيت
" أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك " أي تبنا إليك ورجعنا وأنبنا ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية وإبراهيم التيمي والضحاك والسدي وقتادة وغير واحد وهو كذلك في اللغة
" قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء " أي أنا أعذب من شئت بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدرها
" ورحمتي وسعت كل شيء " كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض كتب كتاباً فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي " " فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " أي فسأوجبها حتماً لمن يتصف بهذه الصفات : " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " الآية
وهذا فيه تنويه بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من الله لموسى عليه السلام ، في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع ، ولله الحمد والمنة
وقال قتادة : قال موسى : يارب إني أجد في الألواح أمة هي خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون في الخلق ، السابقون في دخول الجنة ، رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال : رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها ، وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظراً ، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئاً ولم يعرفوه ، وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئاً لم يعطه أحداً من الأمم ، قال : رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال : رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فضول الضلالة حق يقاتلوا الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال : رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ، ويؤجرون عليها وكان من قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها ناراً فأكلتها ، وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير ، وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم ، قال : رب فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال : رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال : رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال : رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد
قال قتادة : فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح ، وقال : اللهم اجعلني من أمة أحمد
وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام ، وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذكر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه ، وحسن هدايته ومعونته وتأييده
قال الحافط أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه : ذكر سؤال كليم الله ربه عز وجل عن أدني أهل الجنة وأرفعهم منزلة أخبرنا عمر بن سعيد الطائي ببلخ ، حدثنا حامد ابن يحيى البلخي ، حدثنا سفيان ، حدثنا مطرف بن طريف وعبد الله بن أبجر شيخان صالحان ، قالا : سمعنا الشعبي يقول : سمعت المغيرة بن شعبة يقول على المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل : أي أهل الجنة أدنى منزلة ؟ فقال : رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : كيف أدخل الجنة وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخاذاتهم ؟ فيقال له : أترضي أن يكون لك من الجنة مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : نعم أي رب ، فيقال : لك هذا ومثله معه فيقول : أي رب رضيت ، فيقال له : لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك ، وسأل ربه : أي أهل الجنة أرفع منزلة ؟ قال : سأحدثك عنهم ، غرست كرامتهم بيدي ، وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "
وهكذا رواه مسلم و الترمذي كلاهما عن ابن عمر ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - به ولفظ مسلم : " فيقال له : أترضي أن يكون لك مثل ملك ملوك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت رب فيقال له : لك ذلك ومثله ومثله ومثله ، فيقول في الخامسة : رضيت رب فيقال : هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك ، فيقول : رضيت رب قال : رب فأعلاهم منزلة ؟ قال : أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر "
قال : ومصداقه من كتاب الله : " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون "
وقال الترمذي : حسن صحيح : قال : ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة فلم يرفعه ، والمرفوع أصح
وقال ابن حبان : ذكر سؤال الكليم ربه عن خصال سبع : حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم ببيت المقدس ، حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن أبا السمح حدثه عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سأل موسى ربه عز وجل عن ست خصال كان يظن أنها له خالصة ، والسابعة لم يكن موسى يحبها
قال : يارب أي عبادك أتقي ؟ قال : الذي يذكر ولا ينسى قال : فأي عبادك أهدى ؟ قال : الذي يتبع الهدى قال : فأي عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال : فأي عبادك أعلم قال : عالم لا يشبع من العلم ، يجمع علم الناس إلى علمه قال : فأي عبادك أعز ؟ قال : الذي إذا قدر غفر قال : فأي عبادك أغني ؟ قال : الذي يرضي بما يؤتي قال : فأي عبادك أفقر ؟ قال : صاحب منقوص "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس الغني عن ظهر ، إنما الغني غني النفس ، وإذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه ، وإذا أراد بعبد شراً جعل فقره بين عينيه "
قال ابن حبان : قوله : صاحب منقوص يريد به منقوص حالته ، يستقل ما أوتي ويطلب الفضل
وقد رواه ابن جرير في تاريخه عن ابن حميد ، عن يعقوب التميمي عن هارون بن هبيرة ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : سأل موسى ربه عز وجل فذكر نحوه وفيه : قال : أي رب فأي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يجد كلمة تهديه إلى الهدى أو ترده عن ردي قال : أي رب فهل في الأرض أحد أعلم مني ؟ قال : نعم الخضر فسأل السبيل إلى لقياه فكان ما سنذكره بعد إن شاء الله ، وبه الثقة
* * *
ذكر حديث آخر بمعنى ما ذكره ابن حبان
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن موسى قال : أي رب عبدك المؤمن مقتر عليه في الدنيا ؟ قال : ففتح له باب من الجنة فنظر إليها ، قال : يا موسى هذا ما أعددت له فقال موسى : يارب وعزتك وجلالك لو كان مقطع اليدين والرجلين يسحب على وجهه منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة ، وكان هذا مصيره لم ير بؤساً قط قال : ثم قال : أي رب عبدك الكافر موسع عليه في الدنيا ، قال : ففتح له باب إلى النار فقال : يا موسى : هذا ما أعددته له فقال موسى : أي رب وعزتك وجلالك لو كانت له الدنيا منذ يوم خلقته إلى يوم القيامة وكان هذا مصيره لم ير خيراً قط "
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وفي صحته نظر والله أعلم
وقال ابن حبان : ذكر سؤال كليم الله ربه جل وعلا أن يعلمه شيئاً يذكره به حدثنا ابن سلمة ، حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجاً حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قال موسى : يارب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به قال : قل يا موسى : لا إله إلا الله قال : يارب كل عبادك يقول هذا قال : قل لا إله إلا الله قال : إنما أريد شيئاً تخصني به قال : يا موسى لو أن أهل السموات السبع والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهم لا إله إلا الله "
ويشهد لهذا الحديث حديث البطاقة ، وأقرب شيء إلى معناه الحديث المروي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل الدعاء دعاء عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير "
وقال ابن أبي حاتم عند تفسير آية الكرسي : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد ابن عبد الرحمن الدسكي ، حدثني أبي عن أبيه ، حدثنا أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى هل ينام ربك ؟ قال : اتقوا الله ! فناداه ربه عز وجل : يا موسى سألوك هل ينام ربك ؟ فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ، ففعل موسى ، فلما ذهب من الليل ثلثه نعس فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما ، حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا ، فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك ! قال : وأنزل الله على رسوله آية الكرسي
وقال ابن جرير : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى عن موسى عليه السلام على المنبر قال : " وقع في نفس موسى عليه السلام هل ينام الله عز وجل ؟ فأرسل الله ملكاً فأرقه ثلاثة ، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما
قال : فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان ، ، فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى ، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان ، قال : ضرب الله له مثلاً : أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض "
وهذا حديث غريب رفعه ، والأشبه أن يكون موقوفاً ، وأن يكون أصله إسرائيلياً
* * *
وقال الله تعالى : " وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون * ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين " وقال تعالى : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون "
قال ابن عباس وغير واحد من السلف : لما جاءهم موسى بالألواح فيها التوراة أمرهم بقبولها والأخذ بها بقوة وعزم فقالوا : أنشرها علينا فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها
فقال : بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مراراً ، فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنه ظلة - أي غمامة - على رءوسهم ، وقيل لهم إن لهم تقبلوها بما فيها وإلا سقط هذا الجبل عليكم فقبلوا ذلك وأمروا بالسجود فسجدوا ، فجعلوا ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم ، فصارت سنة لليهود إلى اليوم ، يقولون : لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب
وقال سنيد بن داود عن حجاج بن محمد ، عن أبي بكر بن عبد الله قال : فلما نشرها لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس على وجه الأرض يهودي صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه
قال الله تعالى : " ثم توليتم من بعد ذلك " أي ثم بعد مشاهدة هذا الميثاق العظيم والأمر الجسيم نكثتهم عهودكم ومواثيقكم " فلولا فضل الله عليكم ورحمته " بأن تدارككم بالإرسال إليكم وإنزال الكتب عليكم " لكنتم من الخاسرين "
قصة بقرة بني إسرائيل
قال الله تعالى : " وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون * وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون "
قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي ، وغير واحد من السلف : كان رجل في بني إسرائيل كثير المال ، وكان شيخاً كبيراً ، وله بنو أخ ، وكانوا يتمنون موته ليرثوه ، فعمد أحدهم فقتله في الليل وطرحه في مجمع الطرق ، ويقال على باب رجل منهم
فلما أصبح الناس اختصموا فيه ، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم ، فقالوا : ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله ؟ فجاء ابن أخيه فشكا أمر عمه إلى رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم فقال موسى عليه السلام : أنشد الله رجلاً عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به فلم يكن عند أحد منهم علم منه ، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه عز وجل
فسأل ربه عز وجل في ذلك ، فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة فقال : " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا " يعنون نحن نسألك عن أمر هذا القتيل ، وأنت تقول لنا هذا ؟ " قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " أي أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي ، وهذا هو الذي أجابني حين سألت