قصة مدين قوم شعيب عليه السلام
قال الله تعالى في سورة الأعراف بعد قصة قوم لوط : " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين * قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين "
وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضاً : " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ * قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد * قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز * قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط * ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب * ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود "
وقال في الحجر بعد قصة قوم لوط أيضاً : " وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين "
وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم : " كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين * قالوا إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربي أعلم بما تعملون * فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم "
* * *
كان أهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم مدين التي هي قريبة من أرض معان من أطراف الشام ، مما يلي ناحية الحجاز قريباً من بحيرة قوم لوط ، وكانوا بعدهم بمدة قريبة ، ومدين قبيلة عزفت بهم ، وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل
وشعيب ، نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن وذكره ابن إسحاق
قال : ويقال له بالسريانية يترون وفي هذا نظر ويقال شعيب بن يشخر بن لاوى ابن يعقوب ، ويقال شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم ، ويقال شعيب بن صيفر ابن عيفا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم ، وقيل غير ذلك في نسبه
قال ابن عساكر : ويقال جدته ، ويقال أمه ، بنت لوط
وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه ودخل معه دمشق
وعن وهب بن منبه أنه قال : شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار ، وهاجر معه إلى الشام ، فزوجهما بنتي لوط عليه السلام ذكره ابن قتيبة
وفي هذا كله نظر والله تعالى وأعلم
وذكر أبو عمر بن عبد البر في الإستيعاب في ترجمة سلمة بن سعد العنزي : أنه قدم على رسول صلى الله عليه وسلم فأسلم وانتسب إلى عنزة ، فقال : " نعم الحي عنزة ، مبغي عليهم منصورون رهط شعيب وأختان موسى "
فلو صح هذا لدل على أن شعيباً صهر موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة يقال لهم عنزة ، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، فإن هؤلاء بعده بدهر طويل والله أعلم
وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال : " أربعة من العرب : هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر "
وكان بعض السلف يسمى شعيباً خطيب الأنبياء ويعنى لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته
وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ،عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً قال : " ذاك خطيب الأنبياء "
وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل ويخيفون المارة ، ويعبدون الأيكة ، وهي شجرة
من الأيك حولها غيضة ملتفة بها
وكانوا من أسوأ الناس معاملة ، يبخسون المكيال والميزان ، ويطففون فيها ، ويأخذون بالزائد و يدفعون بالناقص فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم ، فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم ، حتى أحل الله بهم البأس الشديد ، وهو الولي الحميد
كما قال تعالى : " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " أي دلالة وحجة واضحة ، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني ، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم ينقل إلينا تفصيلها ، وإن كان هذا اللفظ قد دخل عليها إجمالاً
" فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها "
أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم ، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال : " ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط " أي طريق " توعدون " أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك وتخيفون السبل
قال السدي في تفسيره عن الصحابة : " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة
وقال إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كانوا قوماً طغاة يجلسون على الطريق ، يبخسون الناس ، يعني يعشرونهم ، وكانوا أول من سن ذلك
" وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا " نهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية ، والمعنوية الدينية
" واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة وحذرهم نقمة الله بهم أن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه كما قال لهم في القصة الأخرى : " ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط " لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق الله بركة ما في أيديكم ، ويفقركم ويذهب ما به يغنيكم
وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة ، ومن جمع له هذا وهذا ، فقد باء بالصفقة الخاسرة !
* * *
فنهاهم أولاً عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف ، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم ، وعذابه الأليم في آخراهم ، وعنقهم أشد تعنيف
ثم قال لهم آمراً بعد ما كان عن ضده زاجراً : " ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ "
قال ابن عباس والحسن البصري : " بقية الله خير لكم " أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس وقال ابن جرير : ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان : خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف قال : وقد روى هذا عن ابن عباس
وهذا الذي قاله وحكاه حسن ، وهو شبيه بقوله تعالى : " قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " يعنى أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام ، فإن الحلال مبارك وإن قل ، والحرام ممحوق وإن كثر ، كما قال تعالى : " يمحق الله الربا ويربي الصدقات "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الربا وإن كثر فإن مصيره إلى قل " رواه أحمد أي إلى قلة
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقمت بركة بيعهما "
والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل ، والحرام لا يجدى وإن كثر ولهذا قال نبي الله شعيب : " بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين "
وقوله : " وما أنا عليكم بحفيظ " أي افعلوا ما أمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه ، لا لأراكم أنا وغيرى
" قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد " يقولون هذا على سبيل الإستهزاء والتنقص والتهكم : أصلاتك هذه التي تصليها ، هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ؟ و نترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون وأسلافنا الأولون ؟ أو ألا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ، ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها ؟
" إنك لأنت الحليم الرشيد " قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن رجيج وزيد بن أسلم وابن جرير : يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الإستهزاء
" قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب "
هذا تلطف معهم في العبارة ، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة
يقول لهم : أرأيتم أيها المكذبون " إن كنت على بينة من ربي " أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم ، " ورزقني منه رزقا حسنا " يعنى النبوة والرسالة ، يعنى وعمى عليكم معرفتها ، فأي حلية فيكم ؟
وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء
وقوله : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " أي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له ، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه
وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة ، وضدها هي المردودة الذميمة ، كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم ، وخطباؤهم الجاهلون قال تعالى : " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " وذكرنا عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيجمع أهل النار فيقولون : يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى ، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه "
وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء ، فأما السادة من النجباء ، والألباء من العلماء ، الذين يخشون ربهم بالغيب ، فحالهم كما قال نبي الله شعيب : " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " أي ما أريد في جميع أمرى إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي
" وما توفيقي " أي في جميع أحوال " إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " أي عليه أتوكل في سائر الأمور ، وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب
ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال : " ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد "
أي لا يحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الإستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم ، فيحل الله بكم من العذاب والنكال ، نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم ، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين
وقوله : " وما قوم لوط منكم ببعيد " قيل معناه : في الزمان ، أي ما بالعهد من قدم ، مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم وقيل معناه : وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان ، وقيل في الصفات والأفعال المستقبحات ، من قطع الطريق ، وأحذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات
والجمع بين هذه الأقوال ممكن : فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زماناً ولا مكاناً ولا صفات
ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال : " واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود " أي أقلعوا عما أنتم فيه ، وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود ، فإنه من تاب إليه تاب عليه ، فإنه رحيم بعباده ، أرحم بهم من الوالدة بولدها : " ودود " وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ، ولو من الموبقات العظام
" قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا "
روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا : كان ضرير البصر وقد روى في حديث مرفوع : أنه بكى من حب الله حتى عمى ، فرد الله عليه بصره ، وقال : يا شعيب أتبكى خوفاً من النار ؟ أو من شوقك إلى الجنة ؟ فقال : بل من محبتك ، فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي فأوحى الله إليه : هنيئاً لك يا شعيب لقائي ، فلذلك أخدمتك موسى ابن عمران كليمى
رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي ، عن علي بن الحسن بن بندار ، عن عبد الله محمد بن إسحاق الرملي ، عن هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عباس ، عن يحيى بن سعيد ، عن شداد بن بن أوس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه
وهو غريب جداً ، وقد ضعفه الخطيب البغدادي
* * *
وقولهم : " ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز " هذا من كفرهم البليغ ، وعنادهم الشنيع ، حيث قالوا : " ما نفقه كثيرا مما تقول " أي ما نفهمه ولا نعقله ، لأنه لا نحبه ولا نريده ، وليس لنا همة إليه ، ولا إقبال عليه
وهو كما قال كفار قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون "
وقولهم : " وإنا لنراك فينا ضعيفا " أي مضطهراً مهجوراً " ولولا رهطك " أي قبيلتك وعشيرتك فينا " لرجمناك وما أنت علينا بعزيز "
" قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله " أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم ، ولا تخافون عذاب الله ؟ ولا تراعوني لأني رسول الله ؟ فصار رهطي أعز عليكم من الله : " واتخذتموه وراءكم ظهريا " أي جانب الله وراء ظهوركم " إن ربي بما تعملون محيط " أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه ، محيط بذلك كله ، وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه
" ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب "
هذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد ، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم ، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار ومن يحل عليه الهلاك والبوار : " من يأتيه عذاب يخزيه " أي في هذه الحياة الدنيا " ويحل عليه عذاب مقيم " أي في الأخرى " ومن هو كاذب " أي منى ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر
" وارتقبوا إني معكم رقيب " هذا كقوله : " وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين "
* * *
" قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين "
طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم ، فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه ققال : " أو لو كنا كارهين " أي هؤلاء لا يعودون إليك اختياراً ، وإنما يعودون إليكم إن عادوا ، اضطراراً مكرهين ، وذلك لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ، ولا يرتد أحد عنه ، ولا محيد لأحد منه
ولهذا قال : " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا " أي فهو كافينا ، هو العاصم لنا وإليه ملجأنا في جميع آمرنا
ثم استفتح على قومه ، واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال : " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " أي الحاكمين فدعا عليهم ، والله لا يرد دعاء رسله إذا استنصروه على الذين جحدوه وكفروه ، ورسوله خالفوه
ومع هذا صمموا على ما هم عليه مشتملون ، وبه متلبسون : " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون "
قال الله تعالى : " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة ، أي رجفت بهم أرضهم ، وزلزلت زلزالاً شديداً أزهقت أرواحهم من أجسادهم ، وصيرت حيوان أرضهم كجمادها ، وأصبحت جثثهم جاثية ، لا أرواح فيها ولا حركات بها ، ولا حواس لا
وقد جمع الله عليهم أنواعاً من العقوبات ، وصنوفاً من المثلات ، وأشكالاً من البليات ، وذلك لما اتصفوا به من قبح الصفات ، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكتت الحركات ، صيحة عظيمة أخمدت الأصوات ، وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائهم والجهات
ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ويوافق طباقها ، في سياق قصة الأعراف أرجفوا نبي الله وأصحابه ، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم ، أو ليعودون في ملتهم راجعين فقال تعالى : " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " فقابل الإرجاف بالرجفة ، والإخافة بالخيفة ، وهذا مناسب لهذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق
وأما في سورة هود : فذكر أنهم أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والإستهزاء والتنقص : " أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد " فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح ، الذي واجهوا به هذا الرسول الكريم الأمين الفصيح ، فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم
وأما في سورة الشعراء : فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة ، وكان ذلك إجابة لما طلبوا ، وتقريباً إلى ما إليه رغبوا ، فإنهم قالوا : " إنما أنت من المسحرين * وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين * فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين * قال ربي أعلم بما تعملون "
قال الله تعالى وهو السميع العليم : " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم "
ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره : أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين ، فقوله ضعيف
وإنما عمدتهم شيئان : أحدهما أنه قال : " كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب " ولم يقل أخوهم كما قال : " وإلى مدين أخاهم شعيبا "
والثاني : أنه ذكر عذابهم بيوم الظلة ، وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة
والجواب عن الأول : أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله : " كذب أصحاب الأيكة المرسلين " لأنه وصفهم بعبادة الأيكة ، فلا يناسب ذكر الأخوة هاهنا ولما نسبهم إلى القبيلة ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم
وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة
وأما احتجاجهم بيوم الظلة ، فإن كان دليلاً بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى ، فليكن تعداد الإنتقام بالرجفة والصيحة دليلاً على أنهم أمتان أخريان ، وهذا لا يقوله أحد يفهم شيئاً من هذا الشأن
فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام ، من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن أبيه ، عن معاوية بن هشام ، عن هشام بن سعد ، عن شقيق بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : " إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهم شعيباً النبي عليه السلام "
فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه والأشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني إسرائيل والله أعلم
ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان ، فدل على أنهم أمة واحدة ، أهلكوا بأنواع من العذاب وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب
وقوله : " فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم " ذكروا أنهم أصابهم حر شديد ، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام ، فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ، ولا دخولهم في الأسراب ، فهربوا من محلتهم إلى البرية ، فأظلتهم سحابة ، فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها ، فلما تكاملوا فيها أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب ، ورجفت بهم الأرض ، وجاءتهم صيحة من السماء ، فأزهقت الأرواح ، وخربت الأشباح
" فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " ونجى الله شعيباً ومن معه من المؤمنين ، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين : " ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود "
وقال تعالى : " وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " وهذا في مقابلة قولهم : " لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون "
* * *
ثم ذكر تعالى عن نبيهم : أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخاً ومؤنباً ومقرعاً ، فقال تعالى : " فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين "
أي أعرض عنهم مولياً عن محلتهم بعد هلكتهم قائلاً : " يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم " أي قد أديت ما كان واجباً على من البلاغ التام والنصح الكامل ، وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه ، فلم ينفعكم ذلك ، لأن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين فلست أتأسف بعد هذا عليكم ، لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ، ولا تخافون يوم الفضيحة
ولهذا قال : " فكيف آسى " أي أحزن " على قوم كافرين " أي لا يقبلون الحق ولا يرجعون إليه ولا يلتفتون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدفع ولا يمانع ، ولا محيد لأحد أريد به عنه ، ولا مناص عنه
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس : أن شعيباً عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام وعن وهب بن منبه : أن شعيباً عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين ، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم