التحليل النفسي والأدب والثقافة
بقلم : د. أماني أبو رحمة
طرح التحليل النفسي منذ بواكيره الأولى علاقة قوية مع الأدب يمكن أن نقول أنها افتتان متبادل. وفي الواقع فإننا "إذا ما قرأنا كتابات فرويد الأولى نجد أن الممارسة التحليلية الأولى هي في جوهرها اختبار مبكر للكلام والخطاب"لقد أعطت دراسة النصوص الأدبية
للتحليل النفسي الوليد فرصة تجاوز التحليل الطبي المحض ليجعل من نفسه نظرية عامة للنفسية والصيرورة الإنسانيين"
سعى التحليل النفسي الى شرح وتأويل الأدب, إلا أن بعض النصوص الأدبية كانت في بعض الأحيان مصادر او أمثلة لمفاهيم التحليل النفسي ذاتها حين" لعبت دور الوسيط بين العيادة والتنظير بغية بلورة الفرضيات الوليدة وضمانها ولتعميم الاكتشافات المميزة المحددة بالحقل الطبي "(
و إذا كان التحليل النفسي هو العلاج بالكلام فان اللغة والسرد هما الأساسيات التي يقوم عليها, بمعنى أن التحليل النفسي هو تسريد نقوم بوساطته بحكي و شرح أفعالنا وكيف أن الحقائق التي نخبرها تتوافق مع ما نقوم به وكيف قمنا باختياراتنا وبدائلنا . يتعامل التحليل النفسي إذن مع اللغة ومع التأويل , انه يقدم مقاربة هامة لهيرمينوطيقا الشك : فكرة أن هناك حوافز ومعاني تتخفى خلف معان أخرى .
إن هيرمينوطيقا الشك"مصطلح بول ريكور" ليس مقصورا على التحليل النفسي ولكنه موجود في الفكر البنيوي عموما , في فكرة أننا نتعامل ـ لكي نفسر الأفعال ـ مع المعنى المبطن وليس مع الحجج والذرائع.
يبدو الارتباط بين الأدب والتحليل النفسي وثيقا, لان التحليل النفسي يرى أن الأدب, والفن عموما, يستمد جاذبيته من قدرته على التعبير عن محتوى اللاوعي بشكل مُقنَّع فضلا عن قدرته على أن يكون"حاملا" للفانتازيا وفي حالة فرويد على وجه الخصوص كان الفن تساميات مقبولة اجتماعيا للرغبة الايروتيكية.
التفت فرويد الى الأدب للحصول على أدلة لخرائطه عن اللاوعي ولتوضيح ما الذي وجده هناك, " ويعتبر اكتشاف عقدة اوديب والتنظير لها المثل الأكثر سطوعا عند فرويد, لقد وصلت قصة اوديب لفرويد من تراجيديا سوفوكليس الأدبية, في هذا السياق، عرض برونو بيتلهيم(1903-1990) دراسته حول قصص الساحرات ووقعها على مخيلة وأفكار الأولاد. فقد عرض، في كتابه تحليل نفسي لقصص الساحرات" Psychanalyse des Contes de fŽes، نظرته التحليلية المتعلقة بمجمل هذه القصص رابطاً إياها بالمفاهيم الفرويدية، خاصة عقدة أوديب. ومؤخرا(1989) وظفت هيلين ام.لوك(1904-1995) ـ من مدرسة كارل يونغ ـ في كتابها "الغابة المظلمة الى الوردة البيضاء " كوميديا دانتي الإلهية لأغراض اثباتية وتفسيرية وعلاجية نفسية, تقول في مقدمة كتابها " ما أود التأكيد عليه هو حقيقة أن عمل كل الفنانين العظماء ينبه تبصرات ومعان لا يكون الكاتب او الفنان على وعي بها" (...) ويبدو أن ما قصدته لوك هو المعرفة الضمنية التي تنبه لدى القارئ عند تورطه بالنص ولا يكون الكاتب على وعي بها بالضرورة, وبسبب الطريقة التي يقارب بها الأنماط البدائية للاوعي الجمعي فان الكاتب لا يفعل ذلك لنا ولكننا نساهم في التركيب الجمالي لنصه" .
يتعامل التحليل النفسي مع الحوافز, خصوصا تلك المخفية او المتنكرة. وبذلك فانه يساهم في تفسير وتأويل الأعمال الأدبية على مستويين: مستوى الكتابة نفسها ومستوى الشخصية ضمن النص. إن القراءة هي المستوى المساير لمستوى الكتابة. وبالتالي يمكن للتحليل النفسي إن يلقي الضوء على عمليتي القراءة والكتابة في تجاوبهما مع البواعث والمحفزات التي ليست في متناول التفكير العقلاني دائما.
يتعامل التحليل النفسي مع كثير من العناصر الأساسية في الشعر والأدب مثل الاستعارة والكناية والمجاز المرسل وهي التي تعامل معها فرويد على وجه الخصوص في تأويل الأحلام:
والواقع أن طريقة الرمز ليست أسلوبا خاصا بالأحلام وإنما هي طريقة عامة في كل ما يتعلق باللاشعور ... فكم من الأناشيد الشعبية والأساطير والكلمات المأثورة والنوادر الدارجة على الألسن من رموز وكنايات تفوق ما يوجد في الأحلام
إن الجاذبية المتبادلة بين الأدب والتحليل النفسي ثقافية وبنيوية على حد سواء. فمن الناحية الثقافية, لم يكن من قبيل المصادفة إن أعظم عملين أدبيين يمثلا تشريحا للروح الأدبية الحديثة( يوليسيس لجيمس جويس والتي صدرت عام 1922 و"البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست التي نشرت بين عام 1917 و1927) ظهرا في الوقت نفسه مع تأويل الأحلام لفرويد( صدر أولا في ألمانيا عام 1900 وصدر عام 1913 في نيويورك بالانجليزية ). لا تبدو قضية السياق الزمني هنا بأهمية الثقافة المشتركة .
شهدت تلك الفترة ولادة رواية(تيار الوعي) على يد جويس وبروست والإنكليزية دوروثي رتشاردسون في وقت واحد بين عامي 1913 و1915صدفة واتفاقاً، دون أن يعرف أحدهم الآخر، فحولوا القصة من الحقيقة الخارجية إلى الحقيقة الباطنية، ومن العالم الواقعي الذي كان بلزاك قد رسم معالمه إلى عالم باطني تلعب فيه الذكرى دوراً هاماً حتى ليمكن القول إن رواية(تيار الوعي) هي عبارة عن رواية سيرة ذاتية، لأنها مشربة بشيء غير قليل من لغة الشعر، لغة الأعماق الدفينة والدفيئة، بحيث تبدو عرضاً لحياة كاتبها الباطنية على الملأ.
كان الفيلسوف الأمريكي وعالم النفس: وليم جيمس أول من ابتكر مصطلح (تيار الوعي) (1842- 1910)، وذلك في كتابه: (أصول علم النفس) للدلالة على صعوبة الإمساك بالأفكار أثناء انسيابها وصعوبة إيقافها لفحصها. ثم تحول المصطلح حين دخل عالم الأدب، إلى الدلالة المجازية، فاستخدم للدلالة على منهجٍ في تقديم الجوانب الذهنية للشخصية في القصص.
لم تنتقل التسمية فحسب من علم النفس الى الأدب بل أن أحد أهم تقنيات كتابة تيار الوعي هي ذاتها في التحليل النفسي : التداعي الحر للأفكار "وفي هذه الطريقة فان فرويد لا يسعى الى التأثير على مرضاه بأي شكل بل يطلب من المريض أن يتمدد على الأريكة ويجلس وهو وراءه وهو لا يطلب منه أن يغمض عيناه كما يتجنب أن يلامسه وذلك لان هذه الطريقة من شأنها أن تذكرنا بالتنويم المغناطيسي. يوظف كتاب تيار الوعي هذه التقانة بحذافيرها فيتركون أفكار الشخصية تتداعى بحرية دون تدخل مباشر او غير مباشر من المؤلف" فالتسلسل الزمني مشوش والعلاقات السببية مقلوبة ..
شهدت الفترة بين الحربين العالميتين ظهور السريالية وهي حركة أفكار وإبداع فني ترتكز صراحة على اكتشافات فرويد التي وظفت لتطوير نظرية أصيلة عن اللغة والإبداع .
نشأت السريالية في باريس عام 1924 على يد الشاعر الفرنسي اندريه بريتون(1896 -1966 ) بمساندة شعراء وفنانين آخرين من دول مختلفة مما منح الحركة نكهة عالمية كان هدف السريالية تغير الحياة" ارثر ريمبود" من خلال تحرير الإنسانية من تعقيدات الرقابة العقلية والاجتماعية والاضطهاد الاقتصادي .
كان بريتون على صلة وثيقة بالفكر الفرويدي وكان مهتما بمنطق اللاوعي وصراع الأنا والانا العليا محاولا ربطها بالإبداع الفني الأمر الذي أدى الى تطوير الكتابة التلقائية بوصفها وسيلة للنقر على اللاوعي يقول الشاعر لوتريامون ( 1946-1960) " الشعر يكتبه كل فرد, ليس فردا واحدا ".
المهمة الخاصة للفرد المبدع ـ يقول بريتون ـ و نتيجة مبادرته هي توضيح العلاقة بين عناصر اللاوعي وعناصر ما قبل الوعي وجعلها موضوعية في اشتغال الفن. يمكن القضاء على الكبت بالتقنيات السريالية. وكان لقاء فرويد بسلفادور دالي في لندن اول محاولة من فرويد لفهم التوظيف السريالي للتحليل النفسي ومقارنته بمعتقداته .
ومن الناحية البنيوية فان التحليل النفسي يستنبط ويحكي قصصاً و أنه يتركب حول السرديات والعلاج بالكلام الذي يتم بالضرورة بوساطة اللغة.
يكشف التحليل النفسي تعقيدات النفس البشرية الأمر الذي كان ولا زال انشغال الأدب وقد بدأ فرويد عملا حقيقا في هذا الإطار إلا أن الصلة البنيوية بين الأدب والتحليل النفسي قد تعمقت على يد كارل يونغ الذي يرتبط نظامه عن الأنماط البدائية بالخيال الإبداعي وبالأساطير حين وظف عالمية الأساطير لتوضيح الوعي الجمعي .
قدمت "اللاكانية التي تطورت في ستينيات القرن الماضي نفسها بوصفها مادة قراءة حديثة للأعمال الفرويدية بالذات" وكانت ترى "أن اللاوعي مبني كاللغة وهذه إحدى أهم الاكسيومات المشهورة المقترحة من طرف جاك لاكان(1901-1981) أما الثانية فهي أن اللاوعي هو خطاب الآخر, الأمر الذي يسمح بأن نرى الذات "الأنا" تتكون مثل خطاب مستحيل ". كان لاكان يرى أن الاستعارة والمجاز والكناية جوهرية للتحليل النفسي ويؤكد لاكان في الكتابات Ecrits: "إن ما تكشفه تجربة التحليل النفسي هو بنية اللغة بكاملها".
تحليل النفس كقولنا تحليل النص .
لقد تحولت اللغة على يد لاكان من "وسيط " بين اللاوعي والعالم العلاجي الى شيء يُعرف اللاوعي نفسه .
اهتم لاكان بكتابات شكسبير وادغار الآن بو " ورأينا كيف قام لاكان بتنظير وظيفة الرسالة في اللاوعي من قصة ادغار الآن بو الرسالة المسروقة"
ساهم افتتان لاكان بفكرة "الرغبة" بوصفها جوهر طبيعة النصوص الأدبية فضلا عن كتاباته في اللاوعي واللغة في تقدم النقد الأدبي وتوثيق الصلة القائمة فعلا بين النقد الأدبي والتحليل النفسي. جرب النقاد كل طرح ممكن لإلقاء الضوء على كتابات صموئيل بيكيت الشائكة. من جانبه لخص بيكيت(1906-1989) موقفه من الفن المعاصر حين عبر عن استيائه من " الفن المضجر في عملياته البطولية السقيمة, المضجر في تعمده أن يكون قادرا ". بدلا من ذلك يفضل بيكيت" التعبير الذي لا يعبر عن شيء , لا شيء يستحق التعبير , لا سلطة للتعبير , لا رغبة في التعبير , ولكننا مرغمين على التعبير في الوقت ذاته".
ولكن هذه الورطة وجدت سياقها في فهم لاكان للغة. فاللغة عند لاكان تشوه تجربتنا الفردية بطريقة لا يمكن تجنبها ولكن لا بد من تقبلها بوصفها وسيلة لا مفر منها تفرض نفسها علينا وتتحكم بعلاقاتنا وادراكاتنا لأنفسنا وللآخرين . اللغة عنده تقوم على الغياب, او على النقص الجوهري فالطفل الذي يفقد ارتباطه العضوي بأمه يحاول أن يستعيد الإحساس الماضي بالارتباط المقدس مع الأم. يمكن النظر الى ترميز الطفل اللفظي على انه إرغام على التعبير . ولكن اللغة تعرف الأم والطفل بوصفهما كينونتين منفصلتين وبالتالي فان رغبة الطفل في الاتحاد بأمه تبقي غير مشبعة وعليه فان الحديث مرتبط دائما بالرغبة, الرغبة التي تصف توق الطفل لاسترداد التعايش المفقود مع إلام . قدر الإنسان إن يعيش النقص الذي لا شفاء منه, "نقص الكينونة " او كما أشار إليها لاكان أيضا " الرغبة بالآخرين" يقول لاكان" الرغبة هي علاقة الكائن بالنقص. هذا النقص هو نقص هو نقص أن تتحدث بطريقة صحيحة. إنها ليست عدم وجود هذا الشيء او ذاك، ولكن نقص الكائن حيث يكون موجودا ". ساهم مفهوم لاكان عن الرغبة " المركز الفاعل في جميع الخبرة البشرية" في توضيح كيف أن الرغبة , فقد الكينونة قد شوهت لغة شخصيات بيكيت ومنعتها من تحقيق مصالحة مع خطابها فضلا عن الإدراك الموحد بالذات والأخر على وجه الخصوص في مسرحياته وقع الأقدام وذلك الوقت وشريط كراب الأخير ولعبة الراكبي . ساهم التحليل النفسي اللاكاني في توضيح كيف أن اللغة عندما نتحدث بها او نسمعها تكون اقصائية وغير كافية , الظاهرة التي تلازم الجانبين : الأداء و الاستماع".
واصل السلوفيني سلافوج زيزيك(1949 - ) الذي وظف لاكان( جنبا الى جنب مع النظرية الماركسية) تحليلاته الأدبية والثقافية وتزايد تأثيره في أمريكا وأوروبا. وفي الوقت الذي تحدى فيه نقاد الأدب النسوي استنتاجات بعينها في مدرسة التحليل النفسي الفرويدية واللاكانية فإنهم قد عملوا على إعادة تعريف عالم التحليل النفسي بدلا من تجاهله والابتعاد عنه.
يبقى التأثير الأكبر للتحليل النفسي على الإنتاج الأدبي كان من خلال إضفاء الشرعية الى الأطروحات التي كانت قائمة بالفعل والتي تنادي بالمزيد من التأمل النفسي والمناقشة الصريحة والواضحة للقضايا الجنسية .
وعلى الرغم من أن فرويد لم يكن داعيا للإباحية الجنسية فقد اقتصر دوره في هذا المجال على توضيح ثقافتة عصره الخاصة التي أخذت الكبت الجنسي الى أقصاه إلا أن دوائر واسعة تعاملت معه بوصفه داعية للحرية الجنسية لائمة او ممجدة والسؤال هل كنا سنقرأ هنري ميللر لولا فرويد ؟.
غير التحليل النفسي المشهد النقدي و كان النقد الأدبي وبالتحديد على المستوى الأكاديمي الوسيط الرئيسي بين الأدب والتحليل النفسي. يعد "النقد التحليلي النفسي نقداً تأويلياً وشهدنا ظهور مصطلحات جديدة تحدد خصوصية هذا الإجراء مثل نقد نفسي وتحليل نفسي سيميائي وتحليل نفسي نقدي وقراءة نفسية " ويمكن القول إن التحليل النفسي والنقد الأدبي والأدب او النظرية الأدبية قد تضافرت وسعت الى توظيف كل منها في المجالين الآخرين بطريقة متمايزة . جسدت جوليا كريستيفا العلاقة الوثيقة بين المجالات الثلاث حين تمكنت من الإمساك بالخطوط الثلاثة في وقت واحد فقد كانت كريستيفا محللة نفسية وناقدة معروفة وكاتبة ناجحة .
وبالرغم من ذلك فقد ظلت هذه الصلة الوثيقة قصرا على المجال الأكاديمي والنقد الإبداعي وكان تقبل فرويد في الولايات المتحدة الأمريكية أبكر وأسرع منه في أوروبا وكان نورمان هولند وهارولد بلوم وفريدريك كروز في مقدمة المدرسة النقدية الأمريكية التي سعت الى تطبيق المفاهيم الفرويدية لتفسير وتوضيح النصوص الأدبية .
تبرز العلاقة الوثيقة بين المجالات الثلاثة ميولا او نزعات خاصة فمثلا كان افتتان النقد الأدبي بنظرية التحليل النفسي من فرويد الى لاكان أعظم من اهتمامات المؤرخين بذات المفاهيم على الرغم من أن هذه النظريات يمكن تطبيقها بسهولة اكبر على الظواهر التاريخية من النصوص الأدبية . لقد بقي حقل التاريخ النفسي هامشيا تقريبا في الجامعات الأوربية والأمريكية و"تعرض للهجوم خصوصا بعد أن أصبح فرعا ثانويا في أقسام الدراسات التاريخية في الجامعات الأمريكية . كان الهجوم على نوعين. نوع طال الأساليب البحثية التي تميزت بالإهمال والاستنتاجات المتسرعة الذي تم التوصل إليها من قبل بعض الكتاب ، ولا سيما من قبل أطباء غير مدربين على المنهج التاريخي أو من قبل المؤرخين الذين يسيئون فهم و تطبيق مفاهيم التحليل النفسي. والنوع الثاني ينطوي على مشاكل محددة مثل دور الأفراد في التاريخ مقارنة بدور القوى الاجتماعية والاقتصادية ، وضرورة الاعتراف بأهمية التفسيرات البديلة الممكنة ، وصعوبة "تحليل" القتلى من ناحية خبرات الطفولة ، وأخيرا ، التشكيك بصحة نظرية التحليل النفسي في حد ذاتها وحتى في حالة وجود إجابات معقولة على كل من هذه المشاكل ، فقد بقي بعض المؤرخين الأكاديميين معادين للتحليل النفسي للتاريخ".
يفتح التحليل النفسي الطبيعة البشرية . من هو هذا الشخص الذي يعاني ؟ ما علاقة المعنى والهوية بالقوى العقلية و الثقافية التي تشكل جزءا كبيرا من كينونتنا . هذا الفهم ل" الإقصاء الأولي خارج عالم الذات _أذا ما وظفنا مصطلح لاكان ـ بالغ الأهمية في الفهم المعاصر للقراءة ,والمعنى, والعلاقة بين الأدب والثقافة.
يرى التحليل النفسي أن الثقافة هي إخبار عن المستويات النفسية الأعمق ـ إذا ما وظفنا مصطلح يونغ ـ وبالتالي فانه "يقدم أفضل نموذج لفهم كيف يمكن للقوى النفسية الأهم والأكثر سيطرة مثل الحب والكراهية ، والمعرفة ، والمعتقد ، والمعنى ، والهوية ، والرغبة ، والاستمتاع بالفانتازيا -- أن تكون أسبابا وآثار للظواهر الاجتماعية والثقافية في الوقت نفسه . والتحليل النفسي حين يفحص الثقافة والمجتمع فانه يشكل وسيلة فريدة من نوعها ـ بل ويمكن القول إنه لا غنى عنها ـ لفهم جذور مشاكلنا الاجتماعية ، فضلا عن فهم وتعزيز الفوائد النفسية والاجتماعية التي تعرضها مختلف التكوينات الاجتماعية و والظواهر الثقافية ".
في سبعينيات القرن العشرين ظهر ما وراء القص , تلك الكتابات الأدبية التي وارتبطت بظواهر بعد الحداثة . ولم يكن التحليل النفسي بعيدا حتى وان كنا نعيش فيما بعد الفرويدية ففي تعريف شديد التكثيف لما وراء القص نجد انه القصّ الذي يجعل من نفسه موضوع حكيه أو كما أطلقت عليه ليندا هتشيون السرد النرجسي, الرواية التي تتضمن تعليقا على سردها وهويتها اللغوية .
يعرف التحليل النفسي النرجسية narcissism ,في حدها الأدنى , بوصفها تمحور الذات حول نفسها. هذه الخاصية المُعًرفة للنرجسية وجدت صداها في الانعكاسية الذاتية في أدب ما وراء القص ومهدت الطريق إلى توظيف مصطلح "النرجسية" لوصف هذا النوع بطريقة فضفاضة وازدرائية.
إن دراسة نقدية مثل السرد النرجسي لهتشيون (1984) تثمن الآثار المعرفية والوجودية التي تنشأ من التمحيص ,الذي لا هوادة فيه ,لمجموع القواعد السردية والاتفاقيات الأدبية في ما وراء القص . و بينما تعرض دراسة هتشيون الرائدة إدراكا واضحا لكل من الدلالات الازدرائية و تضمينات التحليل النفسي لمصطلح "النرجسية" , فان كتابها" السرديات النرجسية " ينحدر بصرامة لفحص العلاقة المحتملة بين مفهوم التحليل النفسي للنرجسية والنوع الأدبي الما وراء قصي ،تقول هتشيون " في حين أن هذه التداعيات النفسية [من النرجسية] الموجودة هنا ، لا مفر منها ، إلا أنها غير ذات صلة لأن النص السردي ، وليس المؤلف , هو الذي ينعت بالنرجسية (1984،1)."
تبدو هتشيون غير قادرة على تصور كيف يمكن أن تكون النرجسية أي شيء آخر, سوى وسيلة لتشخيص حالة المؤلف النفسية ؛ وبرفضها هذه المناورة السهلة ، تتفادى هتشيون المزالق النظرية التي تصاحب نظريات الإمراض النفسي للمؤلف . إلا أن رفضها يكشف أيضا عن وجود قيود معينة في النطاق النظري : عدم الرغبة في مد العلاقة المحتملة بين متطلبات التحليل النفسي والأدب.
ولكن دراسات أخرى حاولت أن تتناول ما تركته هتشيون بواسطة دراسة كيف أن نماذج التحليل النفسي المتنوعة للنرجسية يمكن أن تكون مثمرة في إضاءة بعض ملامح أدب ما وراء القص .
أساس هذه الدراسات يكمن في التأكيد على أن الاقتصاديات الشهوانية libidinal economieللشخصيات النرجسية, يمكن أن تقدم نماذج لتناول النصوص الما وراء قصية. من خلال تطوير هذه النماذج بالاشتراك مع بعض أدوات علم السرد, وعن طريق كشف التضمينات التي تنشأ عند وضع هذه النماذج جنبا إلى جنب مع حفنة من الأعمال الأمريكية الما وراء قصية المعاصرة ، فإن هذه الدراسة لن تفحص الاقتصاديات النصية في نصوص ما وراء القص على ضوء نظريات التحليل النفسي فحسب، ولكنها أيضا ستتناول بعض الاشتغالات المواضيعية لما وراء القص من خلال عدسات التحليل النفسي والسرد في آن واحد . بفعل ذلك ، تكون "النرجسية" قد طُورت من مجرد نعت تحقيري , إلى أداة جديدة لدراسة وفهم النصوص الما وراء قصية.
من خلال دراسة مفصلة للصلات بين النرجسية وما وراء القص، فان هذه المناقشة تحاول أن تحدد الدلالة البالغة لما وراء القص أبعد من حدود نزع الألفة . يمكن تحقيق ذلك بواسطة توضيح كيف يمكن لما وراء القص أن يظهر وكأنه وسيلة ناجعة للنضال الثقافي بحيث تعمل الاستراتيجيات السردية في النصوص الما وراء قصية على تأكيد القيم الثقافية المنشقة. على وجه الخصوص، فان العناصر العدوانية و المثالية التي تعرف النرجسية في نظرية العلاقات الموضوعية يمكن نقلها إلى تصنيف يعبر بإيجاز عن الدوافع السردية الأساسية التي تميل نصوص ما وراء القص إلى نصبها داخل مصفوفاتها السردية, التي عندما تترابط بوضوح ممثلة بالعدوان والمثالية ، فان استراتيجيات السرد الما وراء قصي تصبح وسائط نقل قوية لتأكيد القيم الثقافية المنشقة التي تجسد أيضا رؤى معرفية عميقة عن مدى كفاية السرد بوصفه وسيلة تمثيلية . هذه الأفكار يمكن أن تقرأ بوساطة نظرية العلاقات الموضوعية للنرجسية لان النصوص الما وراء قصية تميل في المقام الأول إلى إقامة هياكل السرد التي تتوافق مع النموذج النرجسي للتفسخ والانشقاق .