قصة حياة القائد الكوردي الملا مصطفى بارزاني
في الاتحاد السوفيتي
١٩٤٧- ١٩٥٨
موسكو : من حمزة مطر - صحفي عراقي مقيم في روسيا
القليل جدأ معروف عن حياة الاب الروحى الزعيم الكردي العراقي الراحل الملا مصطفى برزاني ( ١٩٠٣ - ١٩٧٩) في الاتحاد السوفيتي الذي لجأ اليه عام ١٩٤٧ مع مجموعة كبيرة من المسلحين الاكراد ( ٥٠٠ مقاتل ) في البداية هرباً من العراق بعد قمع حركته المسلحة ( ١٩٤٣- ١٩٤٥ ) من قبل القوات البريطانية والقوات العراقية الموالية لها, ثم هرباً من ايران بعد سقوط الجمهورية التي شكلها الاكراد الايرانيون في المناطق الشمالية من ايران التي كانت واقعة تحت الاحتلال السوفيتي.
ولم يكن سهلاً على مصطفى البارزاني الدخول الى الاراضي السوفيتية مع هذه الفصائل الكردية المسلحة والمشبعة بالروح القومية التي كانت موسكو تخشى من انتقال عدواها الى بقية الاقوام والشعوب الصغيرة القاطنة اراضي الاتحاد السوفيتي.
وقد تعرضت فصائل البارزاني منذ الايام الاولى لوجودها في الاراضي السوفيتية الى الضغوطات الايديولوجية من اجل " غسل ادمغتها " واعادة تربيتها وتعويدها العيش والتفكير وفقاً لقواعد السلوك السوفيتية الصارمة والقاسية وخاصة في السنوات الاولى العجاف بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن جهود الرفاق السوفيت كما يبدو من المقالة الصحفية والوثائق المرفقة بها التي سنعرض ادناه ترجمتها الكاملة, لم تكلل بالنجاح وفشلت في تحويل القائد مصطفى البارزاني من زعيم قومي كوردي الى زعيم شيوعي اممي.
وظلت العلاقة بين البارزاني ومضيفيه السوفيت متوترة طيلة اعوام وجوده في المنفى السوفيتي الاختياري, حيث كان الزعيم الكردي يحن للعودة الى العراق ومواصلة النضال لتحرير شعبه من نير الاحتلال البريطاني ومن ظلم الحكومات العراقية الرجعية المتعاقبة على السلطة في بغداد, في حين كانت للقيادة السوفيتية انذاك حسابات اخرى لم يكن من بينها تخريب العلاقة مع " الحلفاء" البريطانيين , يضاف الى ذلك ان موسكو كانت في هذه الفترة مشغولة ب"هضم" ما حصلت عليه في القارة الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية حيث نشرت مظلتها السياسية على العديد من شعوب اوربا الشرقية وما يترتب على ذلك من التزامات امنية واقتصادية كبيرة . ولهذا وجد الملا مصطفى نفسه مضغوطاً بين سنديان الحاجة الى مواصلة الكفاح والعيش في احضان شعبه ومطرقة الانصياع الى تعليمات مضيفيه السوفيت والالتزام باداب الضيافة.
واللافت للنظر في هذه المادة الصحفية التي نشرتها مجلة " فلاست" الروسية الاسبوعية في عددها ٢٣ المورخ في الرابع عشر من شهر حزيران الجاري تلك الكلمة التي القاها مصطفى برزاني في احدى غرف الاستقبال التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي عندما استطاع اخيراً (في مطلع عام ١٩٥٨) بعد عناء ومشقة الوصول الى الكرملن والالتقاء بعضو هيئة رئاسة اللجنة المركزية "نور الدين محي الدينوف" وبسكرتير اللجنة المركزية " بوريس بونوماريوف " اللذين كانا مسؤلين عن العلاقة مع الاحزاب الشيوعية والحركات الثورية التحررية في المشرق العربي . كانت هذه الكلمة مفعمة بالروح القومية والوطنية وبالاخلاص للقضية التي نذر نفسه لها, حيث يشير فيها الى انه ترك وطنه واهله واطفاله وجاء الى روسيا بحثاً عن الحقيقة والحرية وللحصول على المساعدة من الروس لتحرير شعبه من اغلال الاستعمار, وهدد بانه سيعلن هنا الاضراب عن الطعام اذا لم تتم الاستجابة الى مطالبه العادلة.
وبالطبع هناك العديد من المأخذ على ما احتواه هذا التحقيق الصحفي من حيث مدى دقة صورة الاحداث الواردة فيه وفلسفة كاتبه ( يفغيني جيرنوف ) في اختيار الوثائق التي اعتمد عليها. اترك الرد على ذلك للاخوة الاكراد وخاصة اولئك المتبقين علي قيد الحياة الذين عاصروا او عاشوا هذه الاحداث.
واخيراً اجد من المفيد في هذا السياق ان اذكر بانه لازال هناك وجود للاكراد في روسيا وفي بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل ارمينيا وكازاخستان واوزبكستان. وبالرغم من ان عددهم ضئيل لا يتجاوز عدة الاف الا انهم نشيطون ولهم مراكزهم الثقافية وتنضيماتهم السياسية والاجتماعية وغالبا ما يذكرون بوجودهم عن طريق المظاهرات او الفعاليات الاحتجاجية وخاصة حينما يتعرض اخوتهم الاكراد في تركيا او العراق او ايران الى الاضطهاد القومي. وهؤلاء الاكراد " السوفيت" يتعاطفون مع القضايا العربية العادلة ويكنون الحب والتقدير للجالية العربية في روسيا. ويحضر في ذاكرتي هنا ذلك الترحيب الحار الذي حضينا به , الزميل احمد النعمان وانا, اثناء زيارتنا عام ١٩٨٦ الى احدى القرى الكردية في كازاخستان ضمن مجموعة من الصحفيين الاجانب, بعدما علموا باننا من العراق.
ولا زلت احتفظ بالصورة التذكارية التي التقطت لنا وسط عدد من بنات الاكراد في كازاخستان. اما الان فاليكم هذه المادة الصحفية المترجمة عن مجلة " فلاست " الروسية التي تتطرق الى بعض جوانب حياة القائد الكردي العراقي الملا مصطفى البرزاني فيالاتحاد السوفيتي السابق وعن كيفية عبوره عام ١٩٤٧ الحدود الايرانية – السوفيتية والمشاكل التي واجهت البرزانيين في علاقاتهم مع مضيفيهم السوفيت.
مأثرة عبور الحدود في عام ١٩٤٧ رقع نائب وزير الداخلية في الاتحاد السوفيتي فاسيلي رياسنوي تقريراً الى ستالين قال فيه " في الخامس عشر من يونيو- حزيران الجاري لاحظت وحدات حرس الحدود لقاطع ناخيتشيفان (في اذربيجان- المترجم) ظهور طائرات ايرانية تحلق فوق منطقة بحيرة اخ تيول الايرانية الواقعة جنوب- غرب الحدود السوفيتية – الايرانية. وقد خرقت احدى الطائرات حرمة الاراضي السوفيتية وتوغلت فيها على عمق ٢٠٠ متر, وسمع في هذا الوقت بالذات دوي انفجارات القنابل ".
لم تكن اسباب هذا النشاط الحربي للجيران الايرانيين غير معروفة بالنسبة لقوات حرس الحدود السوفيتية , اذ ورد في التقرير المذكور ايضاً " حسب المعلومات المتوفرة لدينا بدأت في كردستان الايرانية, في منطقة اوشنو, اعتباراً من شهر مارت – اذار عام ١٩٤٧ عمليات عسكرية بين القوات الحكومية الايرانية والاكراد العراقيين من قبيلة برزاني بسبب رفض الاخيرين نزع اسلحتهم والخضوع للقوانين الايرانية. وقد نزحت قبيلة برزاني الكردية من العراق الى ايران عام ١٩٤٥ ".
ان هذه القبيلة ورئيسها الملا مصطفى كانت معروفة جيداً للسلطات السوفيتية. ففي عام ١٩٤٣ اشعل برزاني ورجاله انتفاضة ضد الحكومة العراقية والقوات البريطانية الموجودة هناك. في البداية حالف الحظ مصطفى برزاني ورجاله , فبعد سيطرتهم على العشرات من مراكز الشرطة استطاعوا ان يتسلحوا بشكل حسن. ولكن ما ان اقتربت الحرب العالمية الثانية من نهايتها وشرع البريطانيون يولون اهتماماً جدياً لتصفية المشكلة الكردية حتى وجد ت فصائل مصطفى برزاني نفسها مطوقة من قبل القوات البريطانية والعراقية وقبائل كردية اخرى منافسة لها . وبعد ان تمكن الملا مصطفى ورجاله اختراق طوق الحصار تسلل الى شمال ايران الذي كان انذاك محتلاً من قبل الجيش السوفيتي.
البرزاني يصبح جنرالاً وجد السوفيت في الحال للمناضل المجرب ضد الامبريالية البريطانية ( مصطفى برزاني- المترجم) عملاً حسب اختصاصه القتالي, اذ كان الاتحاد السوفيتي قد اقام في المنطقة الايرانية الخاضعة لسيطرته جمهوريتين ذاتيتي الحكم : الجمهورية الاذربيجانية والجمهورية الكردية. وحصل مصطفى برزاني في الجمهورية الكردية على منصب قائد الحرس الوطني ومنح رتبة جنرال. وحتى ان الرفاق السوفيت وعدوه بجعله قائداً عاماً لجيشي الجمهوريتين, غير انهم لم يستطيعوا التوصل الى اتفاق على توحيد صفوف الاكراد والاذربيجانيين.
وبعد ان اضطر الجيش الاحمر السوفيتي, تحت ضغط الدول الغربية , الى الخروج من شمال ايران طويت معه ايضاً صفحة التاريخ الخاص بالجمهوريتين المواليتين لموسكو . وقرر بعض الزعماء السابقين لهاتين الجمهوريتين الاتفاق مع الحكومة الايرانية, ولكن رغم ذلك جرى اعتقالهم في ايران ومن ثم اعدامهم. وهرب بعض هؤلاء الزعماء الى الاتحاد السوفيتي , الا ان مصطفي برزاني ظل اميناً لمعتقداته الذاتية وواصل حرب الانصار متنقلاً بين الاراضي الايرانية والعراقية والتركية. بيد ان قواته لم يكن بمقدورها الصمود امام جيوش هذه الدول الثلاث.
ما ان مرت فترة قصيرة على ذلك القصف الجوي الذي جرى يوم ١٥ يونيو- حزيران عام ١٩٤٧ حتى اقترب من الحدود السوفيتية – الايرانية المارة بنهر اراكس فصيل صغير من المقاتلين الاكراد , واستطاع اثنان منهم عبور النهر الى الضفة السوفيتية وقاما بتسليم رسالة الى القائد السوفيتي المسؤل عن قاطع الحدود هذا موقعة من زعيمهم مصطفى برزاني. وكانت هناك رسالة ثانية من البرزاني اعدت لايصالها الى " اب الشعوب جميعها " ( ستالين – المترجم ), وقد كتبت الرسالة الثانية بتلك الصيغة التي تليق بمقام القائد الاعلى للاتحاد السوفيتي :
رسالة الملا مصطفى برزاني الى يوسف ستالين
الرفيق ستالين القائد الاعلى للاتحاد السوفيتي
١ - انتم تعلمون باننا قمنا بانتفاضة في العراق ضد الحكومة العراقية من اجل تحرير الاكراد. وبعد ذلك انتقلت الانتفاضة الى الاراضي الايرانية في عام ١٩٤٥ بحثاً عن حماية لها لدى الجيوش السوفيتية هناك. واثناء وجودنا في ايران شاركنا في الحركة الثورية لتحرير الشعبين الاذربيجاني والكردي.
٢ - في العاشر من شهر ديسمبر- كانون اول عام ١٩٤٦ استسلمت جيوش ايران الديمقراطية ( يقصد سقوط الجمهوريتين الايرانيتين الكردية والاذربيجانية – المترجم ) وذلك تحت ضغط القوى الرجعية. ولكن واصلنا نحن المقاومة, وانتقل الى جانبنا وشاركنا في هذه المقاومة ممثلو القوميات الاخرى. ولولا مساعدة البيغات والخانات الاكراد ( اغنياء الاكراد ) للحكومة الايرانية لما تراجعنا نحن عن المقاومة ولواصلنا كفاحنا.
٣ - وبمساعدة من القوى الرجعية التركية والعراقية نتعرض نحن في الوقت الراهن الى عمليات الابادة. لقد كانت بحوزتنا قوات غير كبيرة, ورغم ذلك استطعنا التصدي لضغط الرجعية متحملين العديد من الضحايا. وبفضل الروح الثورية صمدنا وحافظنا على قوانا الاساسية . كنا نعول على كردستان العراق, بيد اننا تعرضنا للخيانة من قبل حفنة من الرجعيين هناك. لقد شاهدنا في العراق ( هكذا ورد في النص الروسي ولربما الاصح في ايران- المترجم) الجيوش التركية التي كانت تقدم العون الى الرجعية التركية ( لربما الاصح الايرانية – المترجم ) الامر الذي ارغمنا الكف مؤقتاً عن مواصلة الكفاح من اجل الحفاظ على قوانا للمعارك القادمة.
٤ - وانطلاقاً من ذلك قررنا التوجه نحو الاراضي السوفيتية مخترقين حصار الجيوش الايرانية حتى وصلنا الى تركيا ومن هناك اتجهنا نحو الحدود السوفيتية. وخلال عشرين يوماً قطعنا الطرق حتى نهر اراكس, وكانت الرجعية الايرانية طيلة هذه المدة تحاول القضاء علينا, ولكنا خضنا معها معارك ضارية حتى بلغنا الحدود السوفيتية.
٥ - هناك حالياً ٥٠٠ من الثوريين البرزانيين يقفون عند الحدود السوفيتية. وبيننا العديد من الجرحى والمنهكين. ونحن ننتظر المساعدة من الرفيق ستالين مثلنا مثل بقية الشعوب الديمقراطية المحتاجة الى التحرر. نحن نريد الدخول الى الاراضي السوفيتية, ونعتبر الحكومة السوفيتية من اكثر حكومات العمال والفلاحين ديمقراطية. ونظراً لوضعنا هذا نرجوكم بالحاح تقديم المساعدة لنا. عاش الرفيق ستالين وعاش الشعب السوفيتي كله ! ( انتهت الرسالة – المترجم ).
غير ان الاكراد وحرس الحدود السوفيت لم يستلموا رداً سريعاً على هذه الرسالة من موسكو . وفي صباح السادس عشر من يونيو- حزيران تقدم نحو ضفة النهر مصطفى برزاني نفسه مع مجموعة من حرسه الخاص وحاول اجراء مفاوضات لتأمين عبور فصائله الى الاراضي السوفيتية . غير ان حرس الحدود كانت لديهم تعليمات صارمة : عدم الدخول في مفاوضات, والاكراد الذين يخرقون الحدود يتم ايقافهم ونزع سلاحهم.
في اليوم التالي اضحى وضع الاكراد البرزانيين في مأزق فقرروا عبور النهر , فعبر في البداية الجرحى منهم والمقاتلون المنهكون وسلموا سلاحهم, فتبين ان لدى ١٦٠ ممن عبروا النهر ٤٠ بندقية فقط. وكان الملا مصطفى برزاني يراقب من ضفة التهر الايرانية كيف سيتعامل السوفيت مع رجاله. وكانت لديه كل الاسس للشك ( بالسوفيت – المترجم ) وذلك لان قصة الحكم الذاتي ( للجمهورية الكردية في ايران – المترجم ) لازالت طرية في الذاكرة, ولان السوفيت قاموا في اعوام الثلاثينيات بمحو هوية الاكراد المحليين السوفيتيين من خلال دمجهم في المجتمع السوفيتي او نفيهم الى اراضي اسيا الوسطى وكازاخستان.
ولكن المجموعة الاولى من الاكراد البرزانيين الذين عبروا النهر لم تطلق عليهم النيران ولم يسلموا الى ايران. وعندها توجهت في اليوم التالي الى الاراضي السوفيتية القوى الاساسية لفصائل مصطفى برزاني. والحقيقة ان زعيم القبيلة ابدى هنا ايضاً اقصى درجات الحذر. فالقسم الاكبر من اسلحة المقاتلين وذخيرتهم ابقاه مخفياً بين الصخور في الضفة الايرانية من النهر وذلك من باب الحيطة من ان الجنود الروس قد يطلقون النار على مقاتليه اذناء عبورهم النهر.
في ١٩ حزيران- يونيو, اي بعد يوم واحد من العبور, رفعت وزارة الداخلية السوفيتية تقريراً الى قيادة البلاد شرحت فيه عملية عبور الاكراد : " في نهاية يوم ١٨ يونيو عبرت فصائل الاكراد البالغ عددهم ٤٩٩ شخصاً بقيادة ملا مصطفى برزاني الى الاراضي السوفيتية. وقد قمنا بتجريد هذه الفصائل من سلاحها المكون من ٣٠٣ بنادق و ٥ رشاشات و ٥٥ مسدساً و ٥٤ رمانة و ١٣ ناظور و ١٣ الف طلقة. وقمنا بنقل الاكراد الى مدينة ناخيتشيفان ( مدينة اذربيجانية تقع عند الحدود مع ايرات - المترجم ) ووضعناهم تحت رقابة قوات حرس الحدود هناك ".
سيطر رجال حرس الحدود الايرانيون على بقية الاسلحة التي تركها الاكراد مخبأة في الضفة الاخرى من النهر. ولكن هذه الغنيمة بدت لحرس الحدود الايرانيين غير كافية, ولهذا وجه قائدهم في الحال رسالة الى نظيره السوفيتي طالبه فيها بتسليم الاكراد الهاربين :
" يشرفني ابلاغكم بان الملا مصطفى برزاني وافراد قبيلته كانوا قبل زهاء عشرين يوماً قد خرقوا مرة اخرى الحدود التركية وانتقلوا الى الاراضي الايرانية . وبالرغم من ان الحكومة الايرانية اتخذت جميع الاجراءات لوقفهم عند حدهم , الا انهم واصلوا عمليات سلب ونهب القرى. وفي ٢٠ يونيو من هذا العام , وتحت ضغط القوات الايرانية, قام البرزانيون الذين يبلغ عددهم ٤٠٠ شخص بعبور نهر اراكس وسلموا انفسهم للسلطات السوفيتية بعد ان تركوا في اراضينا بمنطقة سارانوج جميع ما لديهم من سلاح. ومن اجل الحفاظ على علاقاتنا الودية ارجوكم اعادة هؤلاء الاربعمائة من البرزانيين الاوغاد ".
وكما يبدو فان الايرانيين لم يعرفوا حتى التاريخ المضبوط لعبور البرزانيين الحدود, وهذا يشهد على مدى دقة مناورة البرزاني واركان قيادته. كما ان مصطفى برزاني وزن وبمثل هذه الدقة ايضاً كل كلمة خاطب بها فيما بعد ممثلي السلطات السوفيتية. فقد اكد لهم مثلا بانه ورجاله " نسوا ولم يعدوا يعرفون العمل في الحقول الزراعية, وانهم اعتادوا حرفة استخدام السلاح, وهم على استعداد لتنفيذ اي تكليف لهم من قبل الحكومة السوفيتية يخص مقارعة الرجعيين في ايران " . ولكن الحديث عن الاخلاص للنظام الاشتراكي كان يبدو فاقعاً على خلفية العد الكبير من رجال الدين الموجودين في فصائل البرزانيين الذين كانوا يؤدون دوراً مثل الدور الذي كان يؤديه المشرفون السياسيون في الجيش السوفيتي. ولم يدرك السوفيت هذه المسألة الا في وقت متأخر.
والكلمات التي كانت تشفي غليل القيادة السوفيتية تفوه بها مصطفى برزاني فيما بعد ايضاً. فقد كان يقول لهم بانه ينوي مواصلة النضال ضد الايرانيين, وطلب من الحكومة السوفيتية ان " تمنح قواته فرصة للراحة عدة اشهر ومن ثم تدريبها وتسليحها والسماح لها بالعبور الى الاراضي الايرانية ". ان فكرة الثأر للانسحاب السوفيتي المخزي من شمال ايران كانت تروق للقيادة الحزبية في موسكو وفي باكو ( عاصمة اذربيجان – المترجم ).
الرفاق السوفيت يخطأون في تقييم خطط البرزاني
رفعت وزارة الداخلية السوفيتية مذكرة الى ستالين عام ١٩٤٩ جاء فيها : " انطلاقاً منرغبة الملا مصطفى برزاني اقترح سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الاذربيجاني الرفيق باقروف على الحكومة ان تقوم بنقل الفصائل الكردية الى ضفاف بحر قزوين وتنظيم امدادها بالمؤن واللوازم وتدريب افرادها عسكرياً . وبموجب قرار الحكومة جرى تقسيم هذه الفصائل الى ثلاث سرايا للرماة وبطارية مدفعية وبطارية هاون ومفرزة الغام ومفرزة اتصال ووحدة للدبابات. واوكل الى ٢٥ ضابطاً من القوات المسلحة السوفيتية تدريب هؤلاء الافراد على الفنون العسكرية ".
وتكون انطباع كما لو ان الاتحاد السوفيتي كان ينوي اشعال حرب صغيرة واستخدام فصائل البرزانيين كنواة لتشكيل جيش كامل العدة , والا فبماذا نفسر اعداد جنود دبابات من هذه الفصائل الكردية ؟. ولكن تبين فيما بعد ان الرفاق السوفيت اخطأوا تقييم الخطط الكردية. فقد شرع الشيوخ – القادة العسكريون - البرزانيون منذ البداية بالقاء الموعظ الدينية امام جمهور المؤمنين الاذربيجانيين. وكما دونت هيئات الامن الاذربيجانية في تقاريرها الى موسكو فان هؤلاء القادة- الشيوخ لم يدعوا قط في خطبهم المسلمين الى الولاء للسلطة السوفيتية. وورد في احد التقارير :
" لقد تأكد لمخابراتنا بان مصطفى برزاني الذي هو شخص جاهل في السياسة ينوي تشكيل امارة للقبائل الكردية واعلان نفسه اميراَ عليها . ويصرح برزاني بأن وجوده الحالي في الاتحاد السوفيتي ظاهرة مؤقتة لا تترتب عليه من جراءها اية التزامات. ونظراً لتطلعات برزاني هذه طرح الرفيق باقروف امام الحكومة الاذربيجانية موضوع نقل فصائل الاكراد من الاراضي الاذربيجانية وابعادهم عن منطقة الحدود مع ايران ".
ووفقاً لقرار مجلس الوزراء السوفيتي المؤرخ في ٩ اغسطس – اب عام ١٩٤٨ قامت وزارة الاخلية بنقل البرزانيين من منطقة باكو الى اراضي جمهورية اوزبكستان السوفيتية حيث هيئت لهم ظروف جديدة يستطيعون من خلالها مواصلة تدريباتهم العسكرية.
البرزاني يهدد بالانتحار
في نهاية عام ١٩٤٨ استقبل السكرتير العام للحزب الشيوعي الاوزبكستاني الرفيق يوسوبوف الملا مصطفى برزاني الذي اعرب في هذا اللقاء عن عدم ارتياحه من حال الفصائل الكردية وطلب من يوسوبوف تنضيم لقاء له مع الرفيق ستالين لكي يشرح له وضع البرزانيين ومشاريعهم . كما وطلب برزاني من يوسوبوف ارسال خمسة ضباط من البرزانيين ا
للدراسة في المدرسة الحزبية في طشقند ( عاصمة اوزبكستان- المترجم ) وتنظيم الدراسة والتدريب لبقية الضباط والجنود بحيث يتمكنون من قيادة الطائرات والدبابات والعربات ويتعلمون مهنة زرع الالغام والعمليات التخريبية. وفي نهاية المحادثة مع يوسوبوف اكد مصطفى برزاني انه سيقدم على الانتحار اذا لن يتم السماح له بالذهاب الى موسكو ( لمقابلة ستالين – المترجم ).
السوفيت يقررون حل الفصائل الكردية ويعينون البرزاني وزاناً في السفخوز
وورد في تقرير اخر مرفوع الى ستالين : " في الاونة الاخيرة اخذ قادة الفصائل الكردية يبدون تذمرهم من وضعهم وخاصة بالنسبة لبقاء فصائلهم دون عمل .
وقد بلغت في عام ١٩٤٩ النفقات على فصائل البرزانيين ٦ ملاين و ٦٦٢ الف و ٤٦٧ روبلاً. ولما كان الابقاء على فصائل البرزانيين بهذا الشكل قد يثير لديهم مظاهر غير مرغوب فيها فان وزارة الداخلية السوفيتية ترى من المجدي حل هذه الفصائل وتفريقها الى مجموعات صغيرة وابعادها الى المناطق النائية من اوزبكستان بحيث لن يستطيع افرادها الاكراد الالتقاء فيما بيتهم, ولكي يحرم مصطفى برزاني والمقربون له من امكانية الاتصال مع الاكراد المتفرقين ومن فرص التأثير عليهم . ويتعين على اجهزة السلطة المحلية الاوزبيكية تشغيل الاكراد في مجال الزراعة والصناعة, اما الرقابة الادارية عليهم فتناط باجهزة وزارة الداخلية الاوزبكستانية. وقد نسقت هذه المسائل مع الرفيق يوسوبوف, كما ووافق الرفيق مولوتوف ( نائب رئيس الحكومة السوفيتية انئذ – المترجم ) على هذه الاقتراحات ".
وافق على هذه الاقتراحات فيما بعد ستالين ايضاً. واصبح الاكراد البرزانيون نتيجة لذلك نازحين خاضعين لرقابة السلطات السوفيتية. ويجب علينا هنا الاعتراف بان هذا التطور لم يكن اكثر الاحتمالات سوءً. فعندما خسر الجمهوريون الاسبان في الحرب الاهلية الاسبانية ( ١٩٣٦- ١٩٣٩ المترجم ) تعرض ضباطهم الذين كانوا يدرسون في الاتحاد السوفيتي الى الحجز في معسكرات الاعتقال التابعة لوزارة الداخلية السوفيتية وعوملوا افضل بقليل جداً من لو انهم كانوا اسرى حرب. ولهذا فقد عومل الاكراد في الاتحاد السوفيتي بشكل انساني بمقاييس ذلك الزمان . اما الجنرال مصطفى برزاني فقد أمن الرفاق الاوزبيكيون له عملاً يستطيع به العيش ببحبوحة اذ عينوه وزاناً في احد السفخوزات ( مزرعة حكومية – المترجم ), بالرغم من ان برزاني وبدون هذا التعيين كان لا يعرف شظف العيش , لان كل كردي , سواء الجندي والعمل , كان يخصص للقائد مصطفى جزءً من راتبه.
رجال المخابرات السوفيتية يستخدمون النساء ضد البرزانيين
والبرزانيون يفلتون من الرقابة ويلتقون بالسفير العراقي في موسكو
تكفلت دائرة مكافحة التجسس بمراقبة نشاطات الاكراد من الناحيتين السياسية والاخلاقية. ولكن كما حدثنا الجنرال المتقاعد اوديلوف الذي كان في تلك الفترة يعمل ضابطا في جهاز الامن الاوزبكستاني فان هذه المهمة لم تكن سهلة بالمرة. فقد كان الاكراد متعاضدين فيما بينهم بحيث ان عملية تشكيل شبكة عملاء من بينهم استغرقت وقتاً طويلاً. وانجح طريقة الى ذلك قامت على ما تسمى ب " المصيدة العسلية ". فالرجال الاكراد الذين عاشوا نسبياً خارج رقابة قوادهم وشيوخهم والذين ظلوا لسنوات طويلة بعيدين عن نسائهم كانوا يتطلعون للتعرف مع النساء السوفيتيات اللاتي كان بعضهن يعملن مخبرات لدى اجهزة الامن, وبالتالي استطعن الايقاع ببعض المقاتلين الاكراد وجرهم للعمل معهن لصالح المخابرات. ويتذكر الجنرال اوديلوف : " لقد قدمت هؤلاء النساء لنا خدمات كبيرة. فرجال الكرد كانوا وسيمين !"
وعلى العموم فان الصراع مع البرزانيين, كما يقول الجنرال, كان يحقق احياناً نجاحاً لنا واخرى اخفاقاً تاماً. فالاكراد الذين اكتسبوا خبرة اثناء حرب الانصار الطويلة كانوا يستطيعون الافلات من رقابة رجال الامن , وحتى ان احد المقربين منهم للبرزاني تمكن التملص والسفر خفية الى العاصمة موسكو والالتقاء هناك بالسفير العراقي واجراء محادثة معه باسم مصطفى برزاني حول امكانية عودة الفصائل الكردية الى وطنها العراق. غير ان السلطات العراقية انذاك لم تشتاق لرؤية المقاتلين الاكراد وعودتهم للبلاد.
البرزاني يصل موسكو سراً ويوقفوه عند اسوار الكرملن عندما بدأت الاضطرابات في ايران ( ربما يقصد تلك التي رافقت ثورة مصدق- المترجم ) شرع السوفيت من جديد بتجميع الاكراد حيث وجد الكرملن ان من الافضل وضع المقاتلين البرزانيين تحت الاستعداد. ولكن موسكو اخطأت هذه المرة ايضاً. فقيادة الفصائل الكردية, كما قال الجنرال اوديلوف, لم ترغب في القتال من اجل المصالح السوفيتية . وحسب معطيات المخابرات السوفيتية فان مصطفى برزاني ومعاونيه كانوا يخططون للسيطرة على مناطق استخراج النفط في كركوك بشمالالعراق. ويبدو ان هذه الوشاية كانت مرة اخرى سبباً سبباً في اتخاذ موسكو قراراً بالحفاظ علي الفصائل الكردية في مناطقها باوزبكستان.
كان الجنرال مصطفى برزاني يأمل في ان حياته ستتغير نحو الافضل بعد وفاة ستالين, ولهذا توجه سراً في شهر ابريل – نيسان من عام ١٩٥٣ الى موسكو, بعد ان خطط لهذا الهروب بشكل محكم بحيث لم يتم ايقافه الا عند بوابة الكرملن. ولكن بعد ان القوا القبض عليه تركوه فيما بعد يعيش في العاصمة موسكو تجنباً للمشاكل الاضافية. وهنا خضع مرة اخرى الى الرقابة اليومية. افهم السوفيت البرزاني ان من الضروري له رفع مستواه التعليمي, فدرسوه في موسكو العلوم العسكرية و ثم الحقوه بالمدرسة الحزبية العليا. غير انهم لم يسمحوا له بالعودة الى بلاده بالرغم من جميع طلباته.
وطالب بعودة البرزاني الى الوطن ايضاً اقرباؤه وابناء عشيرته في العراق. ومن اجل ايجاد مبررات لضرورة عودته هذه جرى انتخاب مصطفى برزاني رئيساً للحزب الديمقراطي الكردستاني. ولكن تغيرت في هذا الوقت ايضاً الاولويات السياسية الخارجية للكرملن. فاذا كانوا في السابق لم يسمحوا للبرزاني بالمغادرة من جراء شكهم في اخلاصه للاتحاد السوفيتي, فان ذلك يحصل بسبب الخوف من ان توجه اتهامات للاتحاد السوفيتي بخرق التفاهم المتبادل ( مبدأ التعايش السلمي الذي طرحه انذاك خروشوف- المترجم ) الذي تم التوصل اليه في العلاقات مع العالم الرأسمالي.
البرزاني يهدد بالانتحار و بالاضراب عن الطعام في مقر اللجنة المركزية لقد تعب مصطفى برزاني من كل هذه المناورات, وفي شهر يناير- كانون ثاني من عام ١٩٥٨ تمكن بعد مشقة من الوصول الى مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي, وتحدث هناك مع عضو هيئة رئاسة اللجنة المركزية الرفيق نور الدين محي الدينوف ومع سكرتير اللجنة المركزية الرفيق بوريس بونوماريوف. واعلن برزاني امامهما بانه مستعد للقيام باكثر الاجراءات تطرفاً :
" لقد تركت في العراق زوجتي واولادي واخوتي واقرباءي الاخرين. وخلال السنوات الاحدى عشرة الماضية لم استلم اي خبر عن احوالهم هناك. لقد كنت ابحث عن الحقيقة والحرية , وجئت الى بلادكم طالباً منكم مساعدة شعبي. ومن الناحية الشخصية فانا لا اريد منكم اي شيئ. واتوجه اليوم من جديد الى الحزب الشيوعي السوفيتي, الى الحكومة السوفيتية لكي يساعدونا في التخلص من قيود الاستعمار. وانا مستعد لمغادرة الاتحاد السوفيتى الى اي بلد اخر من اجل مواصلة الكفاح . واذا لم تستجيبوا لطلباتي فسانتحر هنا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. واعلن هنا الان الاضراب عن الطعام لانه لم يبق امامي شيئ اخر اعمله ".
غير انهم في مقر اللجنة المركزية قدموا للبرزاني الوعود فقط وقالوا له " ان القضايا التي طرحها ستصل الى علم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ".
ولكن الظروف وحدها هي التي ساعدت البرزاني ورجاله في العودة الى وطنهم العراق. فقد وقع انقلاب في البلاد ( يقصد ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ - المترجم ), وكانت الحكومة العراقية الجديدة تحتاج من جهة الى اقامة صلات مع الاتحاد السوفيتي, ومن جهة اخرى كان من مصلحتها تطبيع العلاقات مع الاكراد. ولهذا سمحت لفصائل البرزانيين بالعودة الى الوطن.
حادثة طريفة مع الاكراد عند العودة ومن الطريف ذكره هنا ان البرزاني ورجاله عاشوا في الاتحاد السوفيتي زهاء ١٢ سنة ولم يدركوا ماذا كان يجري حولهم. واخيراً تم نقلهم الى العراق على ظهر الباخرة السوفيتية " جورجيا " من ميناء اوديسا ( يعود حالياً الى جمهورية اوكراينا المستقلة ويقع على البحر الاسود- المترجم ). وبالطبع رافقهم في هذه الرحلة واحد من ضباط المخابرات السوفيتية " ك. ج. ب " برتبة نقيب سجل نفسه كمساعد للقبطان . وعند وصولهم الى الميناء العراقي ظل الاكراد على ظهر السفينة بانتظار حصولهم على السماح الروتيني بالنزول الى البر .
وفي وقت الانتظار هذا لاحظ الاكراد المشهد التالي : تقترب من رصيف الميناء سيارة السفير السوفيتي في العراق, يصعد السفير الى ظهر السفينة ويصافح الاكراد ثم يدخل الى قمرة النقيب ضابط المخابرات ويقضي هناك بعض الوقت ثم يخرج حاملاً معه " اشياءً مغلفة ". ويقوم بنفس العملية هذه مسؤل محطة المخابرات السوفيتية في العراق. ا ندهش الاكراد وظنوا ان مرافقهم الضابط السوفيتي الصغير هو في الحقيقة " شخصية مهمة جداً " له علاقاته " الخاصة " !!. وطلب الاكراد من هذا الضابط ان يكون ضابط ارتباط بينهم وبين الاصدقاء السوفيت !. ولكن في الواقع فان ما جرى ببساطة هو ان السفير السوفيتي ومسؤول محطة المخابرات صعدا الى ظهر السفينة السوفيتية لا لشيئ اخر الا ليتبضعوا ويأخذوا من قمرة ضابط المخابرات الصغير هذا علب قناني الفودكا !.
-----------------------------------
المصدر : KDP information network 25 Jul 2004
https://book.twilight-mania.com