[center]
الشيخ محمود الحفيد
( ١٨٨٣ ـ ١٩٥٦ )
موروثات حضارية - الشيخ محمود الحفيد
جميد المطبعي / كاتب عراقي
من رموز التراث الوطني.. محمود الحفيد مؤسس أول إمارة كردية عمّق الصلات بين عرب العراق وكرده
الحفيد من المشجرات الرئاسية في كردستان العراق، ولما يزل رمزية وطنية عراقية عامة، لانه هو وانتفاضاته دخل التاريخ العراقي، ملكا مشاعا، وبأمانة التاريخ العام...وجميع الوثائق التي في أيدينا قدمت الشيخ محمد الحفيد ( البر زنجي):
١ ـ بانه احدي صلات الوصل بين العرب والاكراد (كما في الوثائق الوطنية).
٢ ـ وانه حافظ علي استمرار روح الثورة في الاجيال الكردية (كما في الوثائق الروسية) .
٣ ـ وانه بندقية غاضبة (كما نعتته الوثائق الانكليزية).
أما شعبه الكردي فكان ملهما له ووجدانا وقاعدة شرارة لم تخمد اوارها برغم عنت السنين، واصبح منذ نهض ثائرا في تحرير كردستان أبان الحرب العالمية الاولي، جزءا عضويا من تراث الكرد القومي، جزءا يغني ويسجل ويؤرخ!..
كان الشيخ الحفيد للمؤرخين حصتهم الجميلة أيضا لانهم اكتشفوا فيه مصدرا مهما أعانهم علي حل بعض اشكاليات الحرب العراقية البريطانية ومفاصل ضرورية في ثورة العشرين، ولولا الشيخ وتراثه الوطني الموثق في الدوائر الوثائقية الاجنبية لغمض العديد من المؤرخين حق الشعب الكردي باسهاماته في الثورة العراقية الكبري .
وهو نسيج علي تاريخه العضوي: مصدر يوحي بالكثير لاغناء تاريخ جمعي، ركب بأصالة بنائه بين العرب والاكراد من جهة، وبينهما وبين اثنيات تلاحمت في النضال العربي ـ الكردي من جهة أخري، كان اشعاعا يدفع باشعاع آخر. وكان ينادي عليه بكلمة (الشيخ) وهذه الكلمة اقترنت به في الوثائق الرسمية (الوطنية والاجنبية) أيضا وما زالت أجيال الباحثين تضفي عليه (الشيخ) ان بحثت في أي أمر من أموره فماذا تعني كلمة شيخ؟ ولماذا لقب بها؟
هو شيخ لثلاثة مواقع:
١ ـ شيخ طريقة تصوفية (القادرية) وقد ورث شيخية الطريقة بتسلسل آبائه وأجداده في مدينة السليمانية وكان لهم الهيمنة الروحية عليها اطلاقا..
٢ ـ شيخ دين بعد ان أكمل دراسة العلوم العقلية والنقلية علي علماء كردستان وعلماء أركان أسرته، وظل حتي أخرياته يكتب الشعر ويتفقه في الاصول والفروع الشرعية..
٣ ـ شيخ عشائر (البرزنجية) الذين وجدوا في قرية (برزنجة) منذ زمن طويل، وتقع برزنجة (وتعني الارض الخضراء) في الطريق المتجه الي حلبجة في السفح الجنوبي لجبل كروكجاو، وعشائر برزنجة سادة علويون يرجعون الي ذراري الابن الاكبر للامام موسي الكاظم وهو (اسماعيل المحدث) ومن ذراريه الشقيقان (موسي وعيسي) وموسي كان عقيما بينما كان عيسي خصب الولادات، فقد تسلسل السادة البرزنجية من صلبه فكان جدهم الاعلي،فكيف تم هذا الربط النسبي،تقول رواية قديمة ان شيخين علويين هما (عيسي وموسي) وهما من مكة قيل لهما في رؤيا ان يرميا حجرا أسودا فأينما استقر الحجر فعليهما ان يبنيا في موضعه جامعا، فسقط الحجر كما تذهب الرواية في موضع برزنجة الحالي ونزل مع سقوط الحجر الشقيقان وأسهما في بناء الجامع الذي مازال شامخا الي الآن ومنذ سنة ٦٥٦ هجرية، وثمة روايات أخري عن نسب البرزنجية مبثوثة في كتب المؤرخين الاكراد لكنها لا تخرج عن علويتهم وصلتهم بجدهم العلوي السيد عيسي بن علي الهمداني الحسيني..
فالشيخ أصيلة بأصالته وأصالة منازل أسرته، فأبوه الشيخ سعيد شيخ العلم وشيخ الطريقة وجده الشيخ كاكا أحمد المؤلف المؤرخ وجده الاعلي ( العلامة معروف النودهي) كان بحر زمانه وضربت شهرته في آفاق العالم الاسلامي، ومعروف هو أبن العلامة مصطفي بن أحمد النودهي البرزنجي الحسيني المتصوف الشهير،وكان هؤلاء محيط الشيخ محمود الحفيد علما وأخلاقا وفضائل وفيه كانت ولادته في طول السليمانية وعرضها..
وألقيت عليه دروس الشرعيات وهو في سن التمييز، وقرأ اللغات الشرقية والبلاغيات الكردية والفارسية وكان بعمر الفتي، وكرس شبابه للتصوف كتبا ومعارف وروحانيات، وفي عشريناته رافق والده الي الاستانة، وفي جلسة مع السلطان عبد الحميد الثاني سأله السلطان: ماذا درست؟ قال: الشيء الذي يغيب عن الآخرين، وساد صمت، حتي علق السلطان علي جواب الشيخ محمود قائلا: (انت تتخيل في أفق بعيد) ثم منحه شكرا ووساما سلطانيا..
حادث غامض
وبعد خمس سنوات أي في سنة ١٩٠٩ قتل والده الشيخ سعيد في الموصل (في حادث غامض) وعلي اثره أعتقل الشيخ محمود وقام اضراب في أرجاء كردستان احتجاجا علي اعتقاله أجبر الاتراك علي اطلاق سراحه، فعاد الي السليمانية ١٩١٠ كأنه نبوءة ثورة كردية قادمة، وجاءت اليه الوفود تهنئ فيه كرامة الاكراد، وقدمت العشائر بيعتها له، وكادت الاسرتان البرزنجية والبارازانية تلتحمان في ثورة واحدة ومشي الشيخ الي النار المقدسة..!
وتقوم الحرب العالمية الاولي ١٩١٤ والعراق احدي جبهاتها، وها هم الانكليز يشعلون جبهة الفاو ثم البصرة، والشيخ محمود يستعد للمفاجآت، ويأتيه من يسلمه فتاوي الجهاد الصادرة من النجف ويرد عليها: (أيها الشيخ بلغ العلماء نحن قادمون)، وزحف علي رأس جيش من مجاهدي الكرد ( ٢٠٠٠ ) فارس، ويمرون علي أرياف الفرات الاوسط وقري جنوبي العراق وهناك في موضع (الشعيبة) يلتقون بقرب البصرة ثم يجتمع المجاهدان محمد سعيد الحبوبي والشيخ الحفيد وكلاهما رفع يده الي السماء: (اليوم يعانق السيف بسيف ويجاهدان) لكن الاتراك يهربون ويحزن القادة ويرجع كل الي أرضه ومدينته،وهم يخزنون عوامل الثورة في قلوبهم: علي أتراك مستعمرين وعلي انكليز محتلين..
ولم يهدأ الشيخ محمود، منذ عام ١٩١٥ راح يصارع القدر، ويعد لانتفاضة هنا وثورة هنا، وعصيان وتمرد علي الانكليز هنا وهناك علي أرض كردستان ويوزع ملاكاته علي جبال ووديان وسهول ويعطي تعليماته بتأرجح الحرب علي المحتلين واعتقالهم، وجرح مرة، وسجن أخري وهدم بيته وطورد في ليال وأيام ولم يحزن بل كانت عيناه ترسمان غد كردستان بوضوح تام..وأخيرا قبض عليه وسفر موثوقا الي (بومبي) في الهند ١٩١٩، وفي الهند تجول في مجالس أحرار الهند وأطلع علي تفاصيل الثورة الهندية، وخلال ثلاث سنوات جمع فكرا وتجربة وفهما أوسع لثورة ينبغي ان تقام في مجتمعه، وعاد الي وطنه يحلم بكردستان المسألة والقضية والحلم.
كر وفر
ومع الانكليز بين كر وفر ولم يهرب..!
ومع الحكومات المركزية في بغداد يبدي النصح ولم يفتر..! وكان توقاً دائما الي الثورة أو الحرية.. الي الغد! وكان نتيجة لتجاربه وقوة ارادته.
١ ـ قد أعطي عبرة لكل الساسة الاكراد من ان الحق يؤخذ غلابا، وبان ثورتهم لانتزاع الحق بين كر وفر.
٢ ـ وهو أول غيور قدم الي عصبة الامم في جنين طلبا يحثهم علي انشاء حكومة كردية مستقلة.
٣ ـ أول كردي استخدم فن المناورة في المفاوضات مع الحكومات المركزية، اذ جعل (المناورة فنا ناجحا في المطالبة بالحقوق.
وكان شديدا شخصيته لا تخطئ الهدف قوية بقوة اعصابه تاريخية علي نفسه يفكر بالرعية وشعبه قبل أي شيء آخر، وظل زهده يطبع تصرفاته وقوة عفته تطبع صناعة قراراته السياسية!
وأهم شيء فيه: انه كان أكبر من تاريخه، وأكبر من الرقعة التي حددت له في زمانه أوفي مهماته.. وأهم تاريخ تجلي علي قسماته الشخصية انه نبّه الاكراد كالبارزاني الخالد، الي ان تاريخهم أصيل وليس تاريخاً ملاحقاً، ولا يزكيه الا هم وليس غيرهم. فعاش في أعلي قمم المجد والاصالة.
جريدة (الزمان) --- العدد ١٩٧٢ --- التاريخ ٢٠٠٤ - ١١ - ٢٣