* فـــــــــيزياء الفـــــــــــكر
"[سبينوزا] أمير الفلاسفة؛ (….) مسيح الفلاسفة، وما الفلاسفة المتبقّون، حتى أكبرهم، إلا حواريوه". جيل دولوز
لعلّنا لا نبالغ إن قلنا بأنّ فلسفة سبينوزا ونسقه الأنطولوجي قد يكونان المحاولة الأقوى في تاريخ الفكر لبناء نظرية خالصة عن الوجود، ولعلّ نصّه الأمّ : "الإيتيقا" هو الآلة المفاهيميّة الأشدّ إحكاما في مجمل هذا التاريخ. وعلّة هذا الأمر في نظرنا، هو كون سبينوزا قد سعى إلى بناء مذهب مادّيّ صرف لا يسلّم بشيء للنزعات الروحية أو الدينية، إذ أنّ سبينوزا هو في الحقيقة فيلسوف ماديّ، ومذهبه "فيزياء فلسفية"؛ فيزياء تنظر في الموجودات من جهة قوّتهاpoténtia وتركيبها المادّيّ، وليس من جهة ماهياتها الأخلاقية أو الدينية المجرّدة، فالأشياء عنده هي محض علاقات حركة وسكون؛ سرعة وبطء؛ فعل وانفعال، وليست أبدا جواهر وأعراضا أو صورا، كما رسخ في التقليد المثاليّ ذي الجذور الأرسطية. كلّ الموجودات متساوية من حيث الاعتبار المنطقيّ والأخلاقيّ عند سبينوزا، فلا وجود لموجود أسمى أو أعلى قياسا إلى غيره في نظام "الجوهر المطلق الواحـد، المحايث لذاته وصفاتـه الذي هو "الله أو بالطبيعة "Deus sive natura"(1).
واجتماع هاته الخصائص كلّها (المادية، الطاقية، الطبيعية) هو ما يجعل من فلسفة الرجل "إيتيقا" ethica لا أخلاقا moralis، وهذه هي الغاية من تسميته كذلك، إذ لا ينبغي أن نتصوّر أنّ سبينوزا يختار لنظريته اسم "الإيتيقا" بمحض الاتفاق، ولا أنّه صدفة يمتنع عن نشر النص الذي يعرض لعناصر تصوّره عنها وأركانه وهو حيّ، فـ"الإيتيقا" (النص والمذهب) هي النقيض الفلسفيّ المباشر للدين، ولأخلاق الدين، لأنّ الإيتيقا هي "إيتولوجيا"، والأخلاق هي "ثيولوجيا"، وبهذا المعنى فلا إمكان إطلاقا لفهم الإيتيقا بمعنى الأخلاق.
ما معنى الإيتولوجيا؟ وما معنى أن تكون الإيتيقا إيتولوجيا؟
يوافق مفهوم الإيتولوجيا في الاصطلاح المعرفيّ "العلم الذي يدرس كيفيات الوجود وأشكال تحقّق الموجودات، بما هي قوّة وحركة، وعلاقات تأثّر وتأثير". وعندما ننظر إلى العالم من زاوية الإيتولوجيا هاته، أي من زاوية كونه علاقات فعل وانفعال خالصة، ينقلب معناه، فلا يصير محتاجا إلى أن يكون مخلوقا أو محكوما بقوى خارجه، ولا يعود هناك من مبرّر لاعتبار ماهيات أرقى منه، كلّ شيء يصير حينها هنا، في الطبيعة، التي تصير بذلك هي أصل وغاية كلّ فعل أو أثر أو علاقة، أي تصير هي نفسها ما يصطلح على تسميته الناس بـ"الله".
الله هو الطبيعة:
يحمل الوجود عند سبينوزا اسم "الجوهر"، والجوهر في عرفه يقصد به العالم من حيث هو المجال الذي يحتوي كلّ شيء، والذي يكون في الوقت نفسه علّة ذاته وعلّة كلّ موجود، مادّةً كان أو فكرا، حركة أو سكونا. هذا الجوهر المحايث لذاته ليس علّة خالقة ولا منزّهة، بل هو "التحقّق المطلق المادّيّ لذاته في كلّ لحظة". وأوّل سمات الجوهر أنّه واحد"، فصحيح أنّ الذات الإلهية أو الجوهر أو الطبيعة منقسمة [في ذاتها]، ولكنّها ليست مفككة. ولأنّ الجوهر واحد، فهو مطلق Absolutus في طبيعته، كما في تحقّقه، ولا ينبغي فهم المطلقية هنا بنفس دلالة الكمال الثيولوجية، بل العكس تماما، فالجوهر مطلق لأنّ تحقّقه أزليّ أبديّ، أو قل إنّه سرمديّ، فهو إذن غير مخلوق، فهو الذي يفعل بذاته، وهو الذي ينفعل بذاته "فالإله عند سبينوزا لا يسكن" pâti ، لأنّه العلّة المحرّكة لكلّ تحقّقاتها في كلّ لحظة، وبالتالي فهو "قوّة في فعل دائم "in acta"، قوّة ربط وحلّ لا ينقطعان للعلاقات وفق قوانين أبدية"، لا حاجة إذن لتوهّم فكرة البداية والخلق، أو فكرة النهاية والغاية.
ولأنّ الجوهر هو العلّة المطلقة المحايثة لذاتها الشاملة لكلّ ما يوجد، فإنّه لا يدرك كإرادة أو كذات كما يتوهّم الوعي الثيولوجي حين "يؤنسن" الإله، بل يدرك فقط كتحقّق، أو "كتعبير"، إذ أنّ ماهية الجوهر- الله- الطبيعة، هي كونها محض "عبارة" expression ، " فليس الإلـه "شخصا"؛ ليس "ذاتا"، بل هو مجرّد تعبيراتـه، أي إنّه ليس في المحصّلة إلا الأشياء في تحقّقاتها الحالية. يعني هذا الأمر أنّ الجوهر لا يتقوّم إلا بصفاته التي تعبّر عنه وتحقّقه، والصفات بدورها لا تتقوّم إلا بأحوالها التي تعبّر عنها، وهذا هو المعنى الكلّيّ لمفهوم الوجود عند سبينوزا، حيث يكون هو هذا البساط الذي يشمل في نفس الآن كلّ شيء : المادة والفكر كصفات، والتحقّقات العينية لهذه الصفات كأحوال (شجر، إنسان، حجر، حيوان، معدن، وعي…)، والصفات هي ما يأخذ عنده تسمية الطبيعة "الطابعة"، والأحوال هي ما يأخذ عنده صفة الطبيعة "المطبوعة، وكون الطبيعة طابعة لذاتها ومطبوعة بذاتها، هو ما يعطينا في النهاية معنى "وحدة الوجود".
الجوهر إذن هو الوعاء الحامل والمباطن لكلّ ما يوجد، من أكثر الأجسام تناهيا في الصغر وأكثر الأفكار بساطة في التركيب، إلى أرقى إمكانات التحقق التجريبي والمنطقي، وإذا نظرنا للعالم من هذه الزاوية كما أوردنا، لا يصير محتاجا لافتراض "علّة صانعة" كما عند الأقدمين، لأنه يكون حينها مكتفيا بذاته، في ذاته.
الإنسان هو الجسم:
ينتج عن هذا التصور الأنطولوجي الجديد، إضافة إلى التغيّر الذي يلحق بمفهوم الإله، تغيّر في مفهوم الإنسان. فالتعريف الأخلاقي للإنسان يصبح غير ذي مفعول؛ إذ لا يبقى الإنسان هو محض العقل، أو محض القوة الناطقة، ولا يصير للفرد وضع اعتباريّ امتيازيّ قياسا إلى باقي الموجودات، فالأنا ليس ماهية أو جوهرا، بل مجرّد "كيفية وجود"modus ()، أي مجرد تركيب وفق نظام ما في صفتي الفكر والامتداد"؛ نظام من الأطراف والأجزاء المتناهية في الصغر التي تتعالق وفق نموذج من الحركة والسكون، وليس جنسا أو جوهرا أو صورة كما عند أرسطو؛ الإنسان كائن في سلك الكائنات، "قوّة تسعى نحو حدّها الأقصى"، وما يميّزني كإنسان عن الآخرين هو قوّتي الفيزيائية والكيميائية بالقياس إلى الموجود، فوجودي ليس أكثر من جهدي وطاقتي في الاستمرار، طاقتي التي هي جزء من قوّة الإله، فلا تحقُّقَ لي ككائن إلا من حيث أنّني جزء من هذه الكينونة العامّة المطلقة الشاملة المحايثة لذاتها وصفاتها ولأحوالها التي هي الطبيعة، لا امتياز لي إذن ككيفٍ في الوجود عن أيّ من الكيفيات الأخرى في هذا الوجود، حيوانا كان أو جمادا أو غيره.
ينتج عن هذا التحوّل في مفهوم الإنسان والإله أيضا من ناحية أخرى خلخلة هائلة لمفهوم الفكر والحياة، خلخلة لا تفهم قيمتها ما لم نستحضر طبيعة التصورات التي سادت تاريخ الفكر قبله؛ فبقدر ما تبنّي "الإيتولوجيا" السبينوزية فلسفة جذرية في المحايثة، بقدر ما تهدم، بالاستتباع، التصوّرات الإحيائية والتشبيهية والغائية عن الوعي، فالسؤال العميـق للفلسفة حينها لا يبقى هو سؤال القـيمة، بـل يتحوّل إلى سؤال الجسم : "ما الذي يستطيعه جسمك؟"، "ما معنى أن يكون الجسم علاقة تدوم في الزمان؟"، "ما هي العلاقات التي يستطيع أن يقيمها جسمك؟ ما مقدار حركته؟"، "إلى متى يستطيع أن يظلّ ضامنا لعلاقاته التي يكون استمراره بها رهينا؟"، هذا هو الأهمّ في الفكر والفلسفة، وليس سؤال الجوهر أو الماهية.
حينها لا يبقى للحياة أيضا نفس المعنى، لأنّها لا تبقى محمولة على الأفراد، بل تصير قوة الوجود العامّة التي تحتويهم، فالأفراد ليسوا سوى تحقّقات جزئية للحياة، وليسوا هم جوهرها، لأنّ الأفراد هم الذين ينتمون للحياة، وليست الحياة هي التي تنتمي للأفراد، وبالتالي فأن أموت أنا لا يعني أن تموت الحياة، بل معناه أنّ تركيبي الحالي الخاص ينحلّ في تراكيب مختلفة عنّي؛ يصير شكلا آخر وطاقة أخرى لتركيبات أخرى تبني جهدها الخاص في الاستمرار conatus؛ أصير مثلا طعاما للدود ومادّة للأرض وسمادا للنبات، أعود لأصير جزءا من هذا الكلّ المادّيّ الشامل المحايث الذي هو الطبيعة. موتي أنا كفرد إذن لا يعني شيئا بالقياس للحياة، لأنّ الحياة لا تموت، وحدها التركيبات العضوية، التي أنا واحد منها، تنحلّ وتفنى.
***
ما يتوضّح ممّا تقدّم هو أن فهم سبينوزا لا يتأتّى إذا بقينا في إطار التصوّر التبسيطيّ الذي يقدّمه تاريخ الفلسفة عنه، أي في اعتباره مجرّد فيلسوف "ديكارتي"، فيلسوف يدور في حلقة ديكارت، أو في اعتباره فيلسوفا "لوحدة الوجود"، فيلسوفا صوفيّا، بل يتأتّى ويتحقّق حين نهجر هذه الأحكام القبلية وننظر في متنه ذاته، حينها نفهم أنّ فلسفة الرجل هي مناهضة جذرية للخرافة والزيف؛ مناهضة للتصورات الثيولوجية والقيمية عن الطبيعة والأشياء والإنسان؛ مناهضة تجعل منها أرقى لحظة في فلسفة المحايثة، وأبهى تحقّقٍ للطموح الحيويّ المادّيّ الذي توضّح مع "لوكرس" في الفلسفة اليونانية القديمة، وامتدّ إلى حدود هيوم ونيتشه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
-------------
عادل حدجامي