فلسفة الجدل
رغم أنّ الديانة الصينية القديمة كانت حافلة بالآلهة من كلّ نوع، فإنّ الصينيين عبر تاريخهم لم يأخذوا الألوهة المشخصة بشكل جدّي، ولم يُظهروا ميلاً لاعتبار الكون مخلوقاً من قبل إله سماويّ يتحكّم فيه عن بُعد، وإنما رأوا في النظام الكونيّ ما يشبه الجسد الحيّ الذي ينظم نفسه بنفسه وفق آلية ضبط ذاتي. أما الآلهة التقليدية فلم تكن في أصلها إلا أسلافاً أسطوريين تمّ دفعهم بعد مماتهم إلى مراتب عليا في هرمية السلطة الكونية. ومما يلفت النظر في أمر الآلهة الصينية أنها لا تظهر بالفعل ككائنات ذات شخصية واضحة الملامح ووظيفة دائمة، بل كهويات شبحية تكتسب قوتها وفعاليتها من قوة المنصب الذي تشغله. ذلك أن الوظيفة الإلهية هي الثابتة أما شاغلوها فمتغيرون، وفي كل إقليم من أقاليم الصين كان يجري توزيع المناصب على الآلهة بشكل مختلف عن الإقليم الآخر، وبحيث يتمّ ترفيع إله إلى مقام أعلى، أو تخفيض مرتبته إلى مقام أدنى، أو حتى صرفه نهائياً من الخدمة. أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية فهو مفهوم غير شخصيّ للألوهة يتمثّل في "قوّة السماء"، وهي قوّة تشغل الجبهة العليا من قبة السماء التي اعتُبرت أحياناً مظهرها المرئيّ. وهذه الألوهة هي أبعد ما يكون عن التصور الغربي والشرق أوسطي للإله الأعلى المسيّر للكون، لأنها قدرة غير مشخّصة، ولا تتصل بالناس عن طريق رسل يقومون بتبليغهم مشيئتها ويوصلون إليهم شرائعها، ولا تملي عليهم كتباً مقدسة. فإذا أراد الناس معرفة إرادة السماء الخافية، عليهم أن يلجؤوا إلى التواصل معها من خلال تقنيات العرافة والتنبؤ والرجم بالغيب.
كان الاسم الذي يطلق على قوة السماء هو شانغ تي الذي يعني الحاكم الأعلى، ثم أُطلق عليها اسم تي يين الذي يعني في الأصل مسكن الروح الكبرى. ومع ظهور كتاب الآي تشينغ، أو كتاب التغيرات، في مطلع الألف الأولى قبل الميلاد، التقى مفهوم قوّة السماء بمفهوم آخر عن الألوهة غير المشخصة هو مفهوم التاو الذي لعب منذ ذلك الوقت الدور الأهم في الفكر الديني والفلسفي الصيني. يُعتبر كتاب التغيرات أشهر كتب الحكمة الصينية، وواحداً من أهمّ الكتب في تاريخ الثقافة الإنسانية. وقد شغل الكتاب صفوة العقول الصينية لقرون عديدة، وكان وراء أهمّ المنجزات في التاريخ الطويل للثقافة الصينية. فلقد عرف كونفوشيوس كتاب التغيرات وكرس قسما كبيراً من وقته لدراسته والتعليق عليه لا سيما في سنوات شيخوخته، وهناك قسم مهمّ من ملاحق الكتاب تحتوي على شروحات وتعليقات على المتن تُعزى إليه وإلى بعض تلامذته. كما أن الكتاب كان المصدر الرئيسي لإلهام لاو- تسو مؤسس التاوية وواضع كتاب التاو تي تشينغ، الذي يعتبر بمثابة الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد كتاب التغيرات.
تقوم حكمة التغيرات على عدد بسيط من المفاهيم الأساسية. فبالدرجة الأولى لدينا مفهوم عن التغير يشكل الأرضية التي تقوم عليها فلسفة الكتاب. فكل شيء يجري ويجري دون توقف كماء النهر، ولكن هذا التغير الدائم يقوم على أرضية ثابتة غير متغيرة، وإلا لما كان هنالك نظام كونيّ ولانحلّ كلّ شيء إلى فوضى مطلقة. هذه الأرضية الثابتة هي التاو، الوحدة الجوهرية الكامنة وراء الكثرة المتبدية، والواحد الذي يعطي للمتعدّد الأساس والمعنى، إنه البداية العظمى لكل الموجودات.
يُرمز للتاو في كتاب التغيرات بدائرة فارغة تشير إلى المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وبدائرة يتناوب فيها الأبيض والأسود أو قوة الـ"اليانغ" الموجبة وقوة الـ"ين" السالبة، تشير إلى المبدأ الأول بعد ظهور الموجودات التي نجمت عن دوران القوانين على بعضها، على ما هو موضح في الشكل أدناه.
إنّ الخط الذي يتّخذ شكل حرف S داخل دائرة التاو، يُعبّر عن ظهور الأقطاب والمتعارضات إلى حيز الوجود. فهذا الخط قد أحدث شرخاً في الفراغ المتماثل داخل دائرة التاو، وقسّمه إلى أعلى وأسفل، ويمنة ويسرة، وأمام وخلف. وانحلّت الوحدة السابقة إلى مظاهر ذات قوى متعارضة ومتجاذبة في الآن نفسه. إن كل ما في الكون هو مزيج من طاقة موجبة وأخرى سالبة، فإذا غلب اليانغ كان الشيء ذا طبيعة موجبة (السماء، النار، الهواء، الرجل، النهار… الخ)، وإذا غلب الين كان الشيء ذا طبيعة سالبة (الأرض، الماء، القمر، الليل.. الخ) لهذا فقد صوُّر القسم الظليل في دائرة التاو وفيه نقطة منيرة، والقسم المنير وفيه نقطة ظليلة، لأن في كل سلب بعض من الإيجاب، وفي كل إيجاب بعض من السلب. كما اتخذ القسمان الظليل والمنير وضعاً دورانياً حركياً يعبر عن التناوب بينهما، فكلما بلغت حركة اليانغ أوجها تراجعت لصالح حركة الين، وكلما بلغت حركة الين أوجها تراجعت لصالح حركة اليانع.
وكما هو الحال في الفيزياء الحديثة، فإنّ كلّ مظاهر الوجود تنجم عن هذه اللعبة الكونية للطاقة الموجبة والأخرى السالبة. فاليانغ يوصف بالذكورة، إنه حركيّ، دافئ، واضح، جافّ، ساطع؛ أما الين فيوصف بالأنوثة، إنه ساكن، بارد، مظلم، غامض، رطب، مُنْسِل. وقد يُظهر أحد الأشياء خصائص الين أحياناً وخصائص اليانغ في أحيان أخرى، فجذع شجرة مقطوع يبدو للوهلة الأولى وكأنه ين بكامله، ولكنك إذا أحرقته بالنار أظهر كل خصائص اليانغ، لا لأن ماهيته قد تغيرت ولكن لأن فعاليته الداخلية قد تحولت من صيغة إلى أخر. ذلك أن العالم كما يراه الصينيون هو عالم "فعالية". والأشياء لا تختلف عن بعضها من حيث مادّتها وإنما من خلال الطريقة التي تنشط بها، لأنّ مفهوم "الجوهر" و"المادة" مفقود في مثل هذه النظرة إلى العالم، وما الإثنان إلا تبدٍ في عالم الظواهر لشيء خفيّ غير مادي.
وهكذا تقف الأضداد في تقابل: الخير والشر، النور والظلام، الحياة والموت، الذكر والأنثى، السماء والأرض، العلو والانخفاض، الحرارة والبرودة، الجفاف والرطوبة، الحظ الطيب والحظ العاثر… الخ. وهذه الأقطاب ليست في صراع مع بعضها من أجل سيادة أحدهما على الآخر وإلغائه (كما هو الحال في الفكر الديني الشرق أوسطي، حيث يتصارع الموت والحياة، والخير والشر، وسيت وحورس، وأهوار مزدا وأهريمان، والرحمن والشيطان)، بل إنها تنشأ في تواقت معاً ويتخذ كل ضد وجوده ومعناه من ضده، وحيث كل مظاهر الوجود في تناوب دائب وتلقائي.
ولدينا حكاية صينية رمزية تدل على مدى ترسخ مفهوم قطبية الوجود في العقل الصيني. فقد هرب الحصان الوحيد الذي يساعد أحد الفلاحين في أعمال الحقل، فجاء إليه جيرانه عشاءًَ يواسونه في مصيبته قائلين: "يا لها من مصيبة حلت بك." فهز الفلاح رأسه وقال: "ربما، من يدري." في اليوم التالي رجع الحصان إلى صاحبة ومعه ستة جياد برية أدخلها الفلاح إلى حظيرته. فجاء إليه جيرانه يهنئونه قائلين: "أيّ خير أصابك." فهزّ الفلاح رأسه وقال: "ربّما، من يدري." في اليوم الثالث أسرج ابن الفلاح أحد الجياد البرية وحاول امتطاءه، فجمح الجواد وألقاه عن ظهره وكُسرت ساقه. فجاء إليه جيرانه يواسونه قائلين: "يا لها من مصيبة حلت بك." فهز الفلاح رأسه وقال: "ربما، من يدري." في اليوم الرابع جاء مأمور التجنيد في مهمّة لسوق شباب القرية للجيش، فأخذ من وجدهم صالحين للخدمة العسكرية وترك ابن الفلاح بسبب عجزه، فجاء إليه جيرانه يهنئونه قائلين: "يا له من خير أصابك." فهز الفلاح رأسه وقال: "ربما، من يدري."
تبلغ هذه الجدلية الفلسفية ذروتها في فكر لا- تسو الذي يرى أنّ فنّ الحياة ينبغي ألا يقوم على طلب اليانغ واستبعاد الين، كما هو الحال في الفكر الغربي والشرق أوسطي، بل على الحفاظ على حالة من التوازن بين القطبين، لأنه لا قيام لأحدهما إلا بوجود الآخر، والحكيم الذي يدرك قطبية وجوده ووجود العالم، عليه أن يصرف نظره عن هذه التغيرات ويثبت قلبه على الجوهر الساكن للوجود. يقول في الفصل الثاني من كتاب التاو تي تشينغ:
يرى الجميع في الجميل جمالاً لأن ثمة قبحاً يرى الجميع في القبيح قباحة لأن ثمة جمالاً الوجود واللا وجود ينجم بعضهما عن بعض الطويل والقصير يوازن بعضهما بعضاً العالي والمنخفض يسند بعضهما بعضاً الصوت والصمت يجاوب بعضهما بعضاً القبل والبعد يتبع بعضهما بعضاً لذا فإن الحكيم لا يتدخل في مسار الأشياء ويُعلّم بدون كلمات
ويقول في الفصل 36:
إذا أردت ضغط شيء عليه أولاً أن يكون ممطوطاً إذا أردت إضعاف شيء عليه أولاً أن يكون قوياً إذا أردت حني شيء عليه أولاً أن يكون منتصباً إذا أردت أن تأخذ من شيء عليه أولاً أن يكون مليئاً هذا ما يدعى بالبصيرة الخافية
أي أن المضغوط هو حال من أحوال الممطوط، والممطوط هو حال من أحول من أحوال المضغوط؛ المنحني هو حال من أحول المنتصب، والمنتصب هو حال من أحوال المنحني؛ وكذلك القوي والضعيف، والفارغ والمليء. وبتعبير آخر فإن الأشياء تمارس الفعل على بعضها بعضاً، وتنشاً في تواقت معاً، حيث لا ظهور لواحد منها في معزل عن شبكة الأفعال المتبادلة التي تربطه بالأشياء الأخرى. ويقول في الفصل 42
التاو أنجب الواحد والواحد أنجب الثاني والإثنين أنجبا الثالث الثلاثة أنجبت الآلاف المؤلفة الآلاف المؤلفة تحمل الين على كتفها وتعانق اليانغ بالذراعين. الآلاف المؤلفة ناتج تناغم هاتين القوتين.
فالتاو أنجب أولاً أحد القطبين الرئيسيين، وهذا القطب أنجب نقيضه فهو الثاني، أما الثالث فهو الوحدة الجامعة بينهما والناجمة عن دورانهما على بعضهما، وهو الدوران الذي أنجب جميع مظاهر الكون الحية والجامدة. ويقول في الفصل 22:
إذا انحنيت تَغلِب إذا انطويت تستقيم إذا فرغت تمتلئ إذا بدوت بالياً تتجدد بالقليل تكسب، بالكثير تتعثر.
والأقطاب المتعارضة في تطورها ربما تحولت في النهاية إلى نقائضها نفسها. يقول في الفصل 45:
عندما يبلغ الإنجاز تمامه يبدو ناقصاً عندما يصل الامتلاء تمامه يبدو فارغاً الاستقامة التامة تبدو انحناءً المهارة التامة تبدو خرقاء الفصاحة التامة تبدو تلعثماً
إن الثنائيات التي يوردها لاو- تسو هنا: كمال- نقصان، وامتلاء- فراغ، واستقامة- انحناء، وفصاحة- تلعثم، جميعها أشكال من ثنائية: إثبات-نفي. وفي هذا يقول تشوانغ تزو، تلميذ المعلم: "الإثبات ينشأ عن النفي، والنفي ينشأ عن الإثبات. من هنا فإن الحكيم يصرف النظر عن الاختلافات ويستمد رأيه من السماء. إن "هذا" هو "ذاك" أيضاً، و"ذاك" هو "هذا". هل هنالك من فرق بين "هذا" و"ذاك"؟ هل ليس من فرق بينهما؟ أن لا نكرس "هذا" و"ذاك" باعتبارهما نقيضين هو جوهر التاو… إن النفي والإثبات يتمازجان في الواحد اللا نهائي." (1) ويقول المعلم في الفصل42:
بالإضافة إليك تنقص إذا ما نقصت تزيد
ويقول في الفصل 41: الطريق الواضح يبدو معتماً الطريق الذي يمتد إلى الأمام يبدو ممتداً إلى الوراء الطريق الممهد يبدو وعراً البياض الناصع يبدو داكناً المربع الأمثل لا زوايا له الإناء الأمثل لا يمتلئ النغمة المثالية لا صوت لها الصورة المثالية لا شكل لها.
أي إن الصفة أو الخصيصة عندما تصل أقصى درجاتها تنقلب إلى ضدها؛ فأقصى درجة للبياض هي السواد، وأقصى درجة للسواد هي البياض؛ وأقصى درجة للقوة هي التراخي، وأقصى درجة للصفاء هي العكر. من هنا فإن الشيء الأمثل هو بلا صفة أو خصيصة، فالمربع الأمثل هو بلا زوايا، والإناء الأمثل لا يمتلئ، والنغمة المثالية بلا صوت. ويقول في الفصل 58:
في قلب الكارثة يقبع حسن الطالع تحت حسن الطالع تجثم الكارثة من يعرف سرّ هذا؟ يصير الصدق إلى خداع وتصير الطيبة إلى مكر والناس متحيّرون في هذا طويلاً لذا فإن الحكيم حاد ولكنه لا يقطع ثاقب ولكنه لا ينفُذ متسع ولكنه لا يتعدى يلمع ولكنه لا يبهر.
أي أن الناس العاديين ممن تقودهم حواسهم لا بصيرتهم، لا يدركون ما يجري من حولهم باعتباره صيرورة تتداولها الأقطاب؛ فإذا جاءهم الحظ ابتهجوا وظنوا أنه خاتمة المطاف، ولكن سوء الحظ ما يلبث أن يظهر عن وجهه وتظهر الكارثة من تحت الأفراح والمباهج، وينبت السيء من قلب الطيب، ويظهر الخداع من تحت الصدق. أما الحكيم الذي يدرك تناوب الأقطاب في كل شيء، فإنه لا يتطابق مع واحد منها ولا يكون عرضة لتناوباتها. وهو إذا اكتسب خصائص اليانغ يُظهر كل خصائص الين، فإذا صار حاداً لا يقطع، وإذا لمع لا يبهر الأبصار وإذا اتسع لا يتعدى. ويتوسع لاو- تسو في الكشف عن هذه الثنائيات المتعارضة والمتعاونة معاً، حتى يجعلنا نراها في كل ما حولنا: - قليل الشأن هو جذر عالي والواطئ هو قاعدة العالي (الفصل 39) - الثقيل هو جذر الخفيف الثابت هو سيد المتقلقل (الفصل 26) - الكبير ينبثق عن الصغير والعديد يقوم على القليل لتتغلب على الصعب ابدأ بالسهل الإنجاز الكبير يبدأ من الإنجاز الصغير أصعب المهام في العالم تبدأ بالخطوات السهلة أكبر الأشياء في العالم ينطلق من أصغرها لذا فإن الحكيم ينجز ما هو عظيم لأنه لا يباشر العمل بما هو صعب. (الفصل 63) - إن الشجرة العملاقة نشأت عن سويقة ومدرّج بتسع مساكب صُنع من قبضة تراب ورحلة طولها ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.